(يا ترى بترجع الأيام وبرجع لمدرستي)، كلمات تفوه بها أحمد، ذلك الطفل الصغير الذي يبلغ من العمر اثني عشر عاما، صدفة غريبة جمعتني به وأنا على قارعة الطريق.
في يوم ممطر بارد كنت أنتظر حافلة تقلني إلى مدينة إدلب وطال انتظاري لساعات وساعات؛ لأرى طفلا قد جردته الأيام من معالم الطفولة يتوجه إلى الجهة المقابلة للطريق حاملاً الخبز بين راحتيه ينتظر الحافلة في الطرف المقابل، يرجف من البرد يحمي بين ملابسه ربطة الخبز وكأنها كنز ثمين يتمسك به.
ما لفت انتباهي أنه حدق بي مدة طويلة يتأمل الكتب بين يدي، وماهي إلا لحظات ليقطع الشارع ويتجه نحوي، استغربت من سلامه وسؤاله: “خالة عم تدرسي؟”، استمر الحديث بيني وبينه لنصف ساعة تقريبا، علمت فيها أن أحمد طفل ترفع له القبعة لنضاله.
فهو من سكان حلب الشرقية، خرج برفقة عائلته باتجاه ادلب بعد أن فقد بيته في حلب برفقة أب مبتور الساقين جراء القصف وإخوة صغار بحاجة لمعيل يرعاهم، لم يكن أمام أحمد سوى خيار وحيد أن يصبح رب الأسرة، تاركا وراءه أحلام الطفولة، وبالرغم من أنه ليس ابن المنطقة فقد تنقل أحمد في أرياف ادلب بحثاً عن عمل يقوم به ليعيل أسرته.
يقطن أحمد في قرية صغيرة بالقرب من بلدتي ببيت مؤلف من غرفة واحدة، يعاني ما يعانيه في تأمين مستلزمات العيش لأهله، يخرج كل يوم من قريته لمدينة مجاورة متجاوزاً قريتين لتأمين الخبز فقط.
وهنا استغربت حقا من تصرفه” ما الذي يدفعك لقطع تلك المسافة ألا يوجد خبز في قريتك لتأتي لمدينة بعد بلدتي وتشتري الخبز.. حتى من بلدتي بإمكانك الحصول عليه”.
أجابني والكلمة تغص في حنجرته: ” في .. بس بدن بكل ربطة 200 وأنا كل يوميتي ب 1000 ليرة، شو بدي جيب لجيب بالمدينة صاحب الفرن حكيتلو وضعي عم يعطيني الربطة بخمسين ليرة، بستنى أي سيارة وبطلع معها وبقطع الطريق ِمن ضيعة لضيعة لوصل البيت”.
لم تقتصر معاناة أحمد على تأمين مستلزمات البيت لأمه بل بعد أن يصل البيت يخرج مرة أخرى إلى مدينة أبعد ليعمل في محل للحدادة وبأجر بسيط للغاية.
سكت قليلا وهو يحدق في كتبي وتبادر إلى ذهني أن أسأله:” أحمد كنت شاطر في المدرسة؟!”
فقال لي والبؤس يعلو وجهه: ” وشو الفايدة إن كنت شاطر ولا لا؟ ما أنا حتى لوكنت شاطر ما بقدر كمل دراستي، ما في حدا يعيل أهلي غيري”.
ما كان في وسعي سوى أن أبث روح الأمل في قلبه، طفل كهذا يستحق التقدير وهنا استوقف سيارة مارة؛ لتقله لقريته، تركني وراءه أتأمل حديثه ونضج عقله.. ترى لو كنت في مكانه ما عساي أن أفعل!!
إلى الآن كلما انتظرت في موقف السيارات أذكر أحمد.. أتمنى رؤيته من جديد وهو يرسم الابتسامة على وجهه بالرغم من كل ما يعانيه.
مجلة الحدث- نور سالم