يحرص الدروز على تسمية أنفسهم بالموحدين الدروز. بينما يحرص أحد أبرز قادتهم، وهو وليد جنبلاط، على وصفهم بأنهم مسلمون، على الرغم من أن جنبلاط زعيم سياسي، وليس زعيما دينياً، لكن زعامته تحظى بمباركة دينية. وفي مقابلةٍ معه، أشار إلى أن مناطق الدروز في لبنان كانت تضم مساجد، ودعا إلى إعادة إحيائها. تسمح هذه الطائفة لأبنائها بالاطلاع على تعاليمها (أسرارها) بعد بلوغ سن الأربعين، وليس قبل ذلك. معنى هذا أن ابن الطائفة سيكون معذوراً من ناحية عملية، إن لم يتقيد بالتعاليم قبل تلك السن، غير أنه يتلقى هذه الأسرار شفوياً من الأسرة الصغيرة على الأقل، وضمنياً باندراجه في نمط حياة الطائفة التي تحظر الزواج من غيرها. لكن الزواج يتم، أحياناً، وفق القانون المدني خارج لبنان. والطائفة إلى ذلك مغلقة، لا تفتح أبوابها لمن يرغب بالانتساب إليها (صديق سياسي مقرب من جنبلاط قال له متفكهاً: إنكم تغلقون الأبواب، حتى لا يخرج أحد، وليس حتى لا يدخل أحد!). في لبنان، الطائفة محفوظ مقامها، وفق التعاقد الطائفي القائم، ولا أحد يخرج منها أو عليها. لذلك، حضورها لا يتوقف، وأخبارها لا تنقطع في وسائل الإعلام. وفي فلسطين، حرص المحتل الإسرائيلي، منذ عام 1948، على تقريب زعماء الطائفة الدينيين إليه، بهدف عزلهم عن محيطهم. وقد نجح في ذلك ضمن أجواء الهزيمة المخيمة آنذاك. وبعد ذاك، عندما تم فرض التجنيد بقرار من رئيس الحكومة، ديفيد بن غوريون، عام 1956، وعلى الرغم من حالات رفض القرار داخل الطائفة، إلا أن القرار أخذ طريقه إلى التنفيذ مع أواخر الخمسينيات. وفي مقابل طلبات دائمة للطائفة التي شهدت بالفعل حالة أقرب إلى الانغلاق عن محيطها الفلسطيني والعربي، بدت زعامات دينية وكأنها قد استمرأت وضعها أقلية دينية. وقد امتد هذا الوضع نحو ثلاثة عقود، وذلك في أجواء الانتفاضة الفلسطينية (انتفاضة الحجارة)، والتي أوكل فيها لجيش الاحتلال، ومن ضمنه جنود وضباط من الدروز، قمع الانتفاضة، حيث أخذت أصوات داخل الطائفة ترتفع مطالبة برفض التجنيد داخل الجيش. وبينما واصلت الزعامة الدينية تحبيذ التجنيد، طمعاً في امتيازات ومكاسب للطائفة، فإن هذه الزعامة، في الوقت نفسه، لم تخض في حالة عداء مع مبادرة رفض التجنيد، كما حافظ أصحاب المبادرة، لجنة المبادرة العربية الدرزية والمعروفون الأحرار (كان منهم الشاعر الراحل سميح القاسم)، على عدم المساس بالمقامات الدينية، على الرغم من الاختلاف السياسي معهم، اعترافا بخصوصية الطائفة، أو تكريسا لها، وقبل ذلك من أجل وحدتها. وبينما توزع مرشحون من الطائفة على أحزاب مختلفة في انتخابات الكنيست، فإن انتخابات مارس/آذار الماضي شهدت انضمام سياسي درزي إلى القائمة العربية المشتركة، عن حزب التجمع الوطني الديمقراطي (سعيد نفاع).
“طائفة عربية ذات جذور إسلامية. هجست زعاماتها منذ البداية (على وقع النضال ضد المستعمر) بالهاجس الأقلوي، وشاركت، في الوقت نفسه، في النضالات ضده، كما في الثورة السورية الكبرى على الاحتلال الفرنسي“
بصورة إجمالية، دروز فلسطين المقيمون في 18 بلدة وقرية ناشطون، على الرغم من توزع ولاءاتهم، ولهم حضور دائم في المشهد السياسي، وقد انتهت منذ بداية تسعينيات القرن الماضي حالة شبه الانغلاق على محيطهم القومي والوطني داخل فلسطين وخارجها، ومنذ عام 1995، تواصل ناشطون سياسيون دروز من فلسطين مع أقران لهم في لبنان في العاصمة الأردنية. وأخيراً، ارتفعت بين هؤلاء أصوات تدعو إلى نصرة أشقائهم دروز سورية، بعد مجزرة قلب اللوز، وقد استغلت حكومة نتنياهو هذه النداءات لمحاولة التدخل، وإظهار نفسها في مظهر حامي الأقليات أمام الأكثرية العربية المسلمة. وقد حاولت الطائفة استثمار خصوصيتها من أجل الحماية الذاتية، ولكن، مع جراح نفسية واضطراب في الهوية، ومع نفور شديد مع الرازحين تحت الاحتلال من وجود ضباط وجنود في جيش الاحتلال ومن ممارساتهم.
بخلاف لبنان وفلسطين، ظل دروز سورية بعيدين عن السمع والبصر، فالنظام الشمولي في دمشق لا يسمح للمكونات الاجتماعية والدينية والقومية بالتعبير الحر عن ذاتها، ضمن سياق حرمان المجتمع كله من المشاركة في التدبير السياسي، مع استمالة بعض الزعامات والرموز للمشاركة في كعكة السلطة. الانتفاضة أو الثورة السورية هي التي فتحت الأعين على وجود الدروز في هذا البلد، على الرغم من أن سورية هي المعقل الأول لهم.
هناك، تبدو الطائفة منقسمة على نفسها، بين زعيم الطائفة، يوسف جربوع، المقرب من النظام، وشيوخ الكرامة، وفي مقدمتهم وحيد بلعوس الأقرب إلى الانتفاضة، لكن الطائفة تستخدم على العموم التقنية نفسها: السعي إلى الحماية الذاتية، ومنع الاستفراد بها، والجمع بين وحدة الطائفة وتنوعها السياسي، كما هو الحال في لبنان. فحين يتعلق الأمر بخطر على الدروز وزعاماتها، فإن وليد جنبلاط وطلال أرسلان يتقابلان، كما حدث في عام 2007، حين حاولت ميليشيا حزب الله المس بمعقل جنبلاط. حتى وئام وهاب المقرب من دمشق يبدو أنه لا يبتعد عن وحدة الطائفة والتضامن مع خصومه داخلها، إن بدا أن هناك استهدافاً لها، أو لأحد زعاماتها.
في سورية، لن يختلف الأمر، ثمة تعايش داخل الطائفة بين الاختلافات السياسية، واتفاق على الحماية الذاتية ومنع استهداف الطائفة من أي طرف، النظام أو قوى قد تحسب على المعارضة، غير أن عهداً طويلاً امتد أربعة عقود ونصف العقد أسهم في بناء شبكة مصالح مع النظام. والراجح أن المخاض سوف يستمر داخل الطائفة على وقع التغييرات وموازين القوى. وسوف تتجه الطائفة إلى الحياد في المواجهات الدائرة، ولا فرق كبيراً في هذه الحالة بين تصنيفه حياداً إيجابياً أم سلبياً، وليس كما يتمنى جنبلاط ويؤمن، وكذلك ليس كما يريد زعيم الطائفة في سورية جربوع.
من لبنان إلى سورية وفلسطين، فإن هموم طائفةٍ عربيةٍ عريقة وصغيرة (يتراوح عددها بين 200 إلى 250 ألف نسمة، من دون احتساب المغتربين منها) تعكس، في المحصلة، وحدة الحال السياسي ووحدة المصير في هذه المنطقة. ثمّة وجود قديم للدروز في الأردن يعود إلى تأسيس إمارة شرق الأردن، وقد تولى درزي من لبنان، هو رشيد طليع، رئاسة أول حكومة أردنية، وكان ينتمي لحزب الاستقلال المناهض للوجود العثماني، غير أنه ليس ثمة حالة درزية في الأردن، باستثناء وجود جمعيات اجتماعية لهم، لضآلة عدد أبناء الطائفة فيه (نحو 15 ألف نسمة)، ومن وجوههم البارزة الأديب الراحل جمال أبو حمدان.
أجل، إنها طائفة بلاد الشام. طائفة عربية ذات جذور إسلامية. هجست زعاماتها منذ البداية (على وقع النضال ضد المستعمر) بالهاجس الأقلوي، وشاركت، في الوقت نفسه، في النضالات ضده، كما في الثورة السورية الكبرى على الاحتلال الفرنسي عام 1925 التي قادها سلطان باشا الأطرش، وضريحه في السويداء. ومنذ أيام، أغلقت السلطات الضريح “للترميم”، علماً أنه سليم ولا يحتاج ترميماً، وهناك ما لا يُحصى، وما لا حصر له، مما يحتاج إلى ترميم في سورية، والسلطات منهمكة في تهديم ما لم يُهدم بعد، لا في ترميم أي شيء.
محمود الريماوي – العربي الجديد