الآلات الموسيقية سلاح تخشاه الحرب، وحرفة الأجداد لا تموت حتى إذا سكتت الأنامل.
تتعرض صناعة الآلات الموسيقية كغيرها من الحرف السورية الأصيلة إلى انتكاسة كبيرة خلال سنوات الحرب الأخيرة حتى باتت مهددة بالانقراض، حيث أغلقت أغلب ورش تصنيع الآلات الموسيقية أبوابها بسبب غياب الفرح داخل المدن السورية، لكن البعض من حرفيي هذه الصناعة فر بصناعته إلى خارج البلاد أملا في الحفاظ على أدوات الحياة من الانقراض.
بيروت – اضطر خالد بشار حلبي، وهو شاب سوري يحمل إرثا فنيا ورثه عن أبيه وجده في صناعة العود والبزق بطريقة فنية يدوية تراثية، إلى ترك بلاده التي تعيش أزمة منذ حوالي 5 سنوات ليخيّر اللجوء إلى لبنان.
الأزمة التي تعيشها سوريا لم تثن الشاب الدمشقي ابن الـ30 ربيعا عن الإصرار على المحافظة على هذه المهنة الفنية، التي تصارع أيضا إضافة إلى أهوال الحرب الدائرة منافسة الآلات الموسيقية الإلكترونية، والتشبث بهذا التراث الذي ما يزال يجد من يقدّره ويعرف قيمته التاريخية والتراثية.
ويجلس حلبي في ورشته الصغيرة ومن حوله معدات النجارة ومختلف أنواع الأخشاب، وما أنجزه من آلات موسيقية (عود وبزق)، حيث يبدأ بتقطيع الألواح الخشبية ومن ثم طيّها باستخدام الماء والحرارة المرتفعة، ليقوم في النهاية بجمعها على شاكلة عود مستخدما في ذلك مادة لاصقة ومسامير صغيرة ومطرقة. ويقضي بشار حلبي أياما من العمل ويجتاز 72 مرحلة تنتهي بصناعة عود، فيما قد تمتد الفترة إلى شهرين في حال كان العود من النوع المزخرف.
وتقع ورشة حلبي في منطقة سليم سلام بالعاصمة اللبنانية بيروت التي يفوح منها عبق التاريخ الجميل، حيث الأعواد القديمة معلقة على أحد الجدران وآلات التصنيع اليدوية تزيّن زاوية هنا وأخرى هناك إلى جانب رائحة الأخشاب البلدية وألوانها المشكّلة التي تسر الناظرين.
ووسط هذه المعدات والأعواد والأخشاب، تحدث حلبي والأمل يحدوه بأن تبقى هذه المهنة التراثية صامدة بوجه الهجمة الإلكترونية التي في الكثير من الأحيان تفقد الآلات الموسيقية روحها وحنانها وأنغامها الطبيعية.
ولفت حلبي إلى أنه ومنذ اليوم الأول الذي أتى فيه إلى لبنان، قبل حوالي عام ونصف العام، عمل على فتح ورشته الصغيرة للمحافظة على “هذه الموهبة والمهنة الموروثة”، مشيرا إلى أن العمل الأساسي لأسرته في سوريا هو صناعة العود والبزق.
ويقول حلبي “عادة ما يتم توريث مثل هذه المصالح والأعمال في سوريا بشكل تلقائي من الجد إلى الابن ومن ثمة إلى الحفيد، وأنا اكتسبت هذه المهنة من أبي”، مشيرا إلى أنه قياسا بدرجة حبه وعشقه لهذه الآلات، فقد عمل على تطوير مهاراته بدراسة النجارة أكاديميا في أحد المعاهد ومن ثم دراسة الفنون التشكيلية. وأعرب حلبي عن حبه للعمل مع الأخشاب، قائلا “أنا أحب هذه المهنة وأحب التعامل مع الأخشاب بكل أنواعها، من خشب الأرز والصنوبر والجوز إلى خشب الورد والمشمش وغيرها”.
وتحدث عن جده وعمله في مجال تصنيع العود الخشبي، مشيرا إلى أنه “صنع عودا خاصا وأهداه إلى الفنانة المصرية القديرة الراحلة أم كلثوم، وهو موجود حتى يومنا هذا في متحف أم كلثوم بالقاهرة”.
وأشار إلى أنه عمل منذ قدومه إلى لبنان على تصنيع البزق بأعداد أكبر، مما كان عليه الحال في سوريا “حيث أنني تفاجأت بأن الطلب في لبنان على البزق أكثر مما هو عليه في الشام”.

وحول مراحل تصنيع العود، قال حلبي “العملية تتألف من 72 مرحلة أساسية، تبدأ من تقطيع الأخشاب وفق مقاسات وسماكات محددة، وطيّها باستخدام الماء والحرارة المرتفعة، ومن ثم تركيبها”، موضحا أن “واجهة العود تحتاج أيضا إلى الكثير من مراحل العمل، لنختتم عملية التصنيع بالزخرفة بحسب التصاميم التي نرسمها”.
وتابع قائلا “تصنيع العود العادي الواحد يحتاج لحوالي 10 أيام كحد أدنى، أما العود الذي يتضمن زخارف ومواصفات إضافية فقد تصل مدة تصنيعه إلى نحو شهرين”.
وأبدى حلبي “تخوفا من اندثار هذه المهنة التراثية نتيجة ظهور الآلات الموسيقية الإلكترونية”، إلا أنه أوضح في الوقت نفسه أن “وجود من يحب العود الخشبي ويهتم به، يبدد مخاوفنا ويزيدنا إصرارا على متابعة العمل والمحافظة عليه”.
وشدد على أنه “مهما ظهرت آلات موسيقية إلكترونية، إلا أنها لن تتمكن من أخذ مكانة العود الخشبي الذي يتميز بصوت وروح لا يمكن أن نجدهما في نظيره الإلكتروني”.
وبيّن حلبي أن “لكل عود خشبي صوتا مميزا، فالأعواد السورية والعراقية والمصرية والتركية، تعتبر من أفضل الأنواع في العالم، ولكل منها نكهة خاصة لا يمكن لواحد منها أن يحل مكان الآخر”. وختم بالتأكيد على الاستمرار في هذه المهنة التراثية والمحافظة عليها “حتى آخر نفس”، مضيفا “سأعمل على توريثها لأبنائي بصورة صحيحة ومتقنة كما ورثتها عن أبي وجدي”.
العرب