القدس العربي – محمد عبد الحكم دياب
أخبار غير مستغربة عن هدايا ومساعدات طبية قُدِّمت باسم «المشير» السيسي لدول عظمى وغنية ومتقدمة؛ عونا لها على مواجهة جائحة فيروس كورونا المستجد «كوفيد ـ 19»؛ مثل الصين وإيطاليا وبريطانيا والولايات المتحدة، ولم يكن الوباء قاصرا عليهم، وبين من شملهم أهل وأشقاء في فلسطين، والعراق، وسوريا، والمغرب، والجزائر، واليمن، وغيرهم من أقطار «القارة العربية»، وقَصْر العواطف الجياشة على هذا النوع من الدول لأمر غريب. فالضعيف وصاحب الحاجة هو من يحتاج العون، لكن ماذا نقول؟ فالصين قاب قوسين أو أدنى من احتلال مكانة القوة الأعظم، وإيطاليا صاحبة شركة «إيني» مالكة أكبر استثمارات وأصول نفطية وغير نفطية عملاقة في مصر، بجانب الجهد المبذول للتغطية على قضية مقتل طالب الدكتوراه الإيطالي «جوليو ريجيني»، وفك طلاسمها، وتسويتها وغلق ملفها، وهذه الهدية الشخصية عربون مطلوب للخروج من المشكلة، وأما بريطانيا فأكبر منافس على قطف ثمار الطاقة والغاز المصري، فضلا عن قطف التعاون الأمني بين البلدين، والهدية عربون شخصي لتعزيز ذلك التعاون، بجانب ملف الإرهاب، وعقدة النشاط الإخواني على الأرض البريطانية، أما الولايات المتحدة فتمثل من تزوج زواجا كاثوليكيا «مصهينا»؛ لا ينفصم إلا بالموت، ويخضع لمَثَل «ضرب الحبيب زي أكل الزبيب» الشائع في مصر، ولا بأس من أن تكون الهدايا عربونا لتخفيف الإهانات الأمريكية التي لا تتوقف.
وهذا تفسير لا علاقة له بنظرية «الشَّلَوْلَوْ» وأخواتها، وهي من النظريات المعتمدة في الإعلام «الوطني» في تعامله مع الكورونا، حتى تدنى لمستوى الانحطاط، وعجز عن الحد من انتشار جائحة الفيروس المستجد، ومَل المرء من تكرار الكتابة عن التخلف العقلي المزمن الذي يعاني منه كثير من العاملين في مجال الإعلام الرسمي وشبه الرسمي، وهو ما تعاني منه إدارات الدولة. ولم أجد تعليقا مناسبا لهذه «الجائحة العقلية»، وعدواها التي انتشرت بين كل هؤلاء، وهي أخطر من الكورونا وأفدح، ويناسبها قول جاء على لسان مفتي الديار المصرية الأسبق وإمام الأزهر الراحل الشيخ عبد المجيد سليم، وقد عزله الملك فاروق من منصبه بسبب ذلك القول الشهير؛ أثناء قضاء الملك فاروق شهر العسل في أوروبا مع عَرُوسُه «ناريمان صادق»، التي تزوجها في عام 1951، وامتد ذلك العسل لأربعة أشهر، وشهد مظاهر إسراف وبذخ غير مسبوقة، ولم يكن ذلك سرا، ووصفه شيخ الأزهر الراحل بعبارة «تقتير هنا وإسراف هناك»، وفُسِّرت بأن المقصود بقول «إسراف هناك» هو الملك.. أما قول «تقتير هنا» يشير إلى اوضاع الأزهر.. وكان الشيخ الجليل قد طلب إضافة مبلغ للميزانية يمكنه من إصلاح الأحوال المالية والمهنية للأزهر والأزهريين.. وهذا القول ينطبق على هدايا «المشير»؛ المقدمة لمن ليسوا في حاجة إليها!
ولن ننشغل بـ«هدايا المشير» عن مواصلة تناول الآثار البالغة لجائحة فيروس كورونا المستجد، وما أحدثت فينا وبيننا وحولنا؛ في القرب وفي البعد، وأبدأ بتكرار ما قلناه مرارا إن العالم يعيش سقوط حقب ونهاية عصور، وغير معني بالجديد، وما تبقى؛ رواسب وتصفيات لا يعلم أحد إلى ماذا تنتهي، وتفسير ذلك في اندفاع العالم نحو الانتحار و«التدمير الذاتي»، ونحو الفوضى الضاربة في كل الأركان، وفساد استقر وعشش في الزمان والمكان، وعنف واقتتال لا يتوقف. وكل هذا ينبئ بأن الحديث عن نظام عالمي أو دولي جديد من قبيل التخمين والحدس، وكل الهم معقود على نفض الغبار عن الدفاتر القديمة لعلهم يجدون فيها «على النار هدى»؛ هذا على مستوى العالم، أما على مستوى «القارة العربية»، فليس لديها دفاتر لتنفض عنها الغبار، الدفاتر التي لم تغلق حُرقت، وقد اعتزلت الدنيا، وارتمت في أحضان المال أو الموت بتعدد صوره وأشكاله، وأُصِيبت بالقحط والموات والشلل؛ حتى مقعدها بين المتفرجين تنازلت عنه، وتحتاج معجزة كي تفيق وتستيقظ من سُباتها.
صارت المواجهة مفتوحة، وتضاءلت فرص احتواء الموقف، ومع ذلك نجد من أخذهم الحماس؛ لينضموا لإحدى القوتين، طمعا في المكاسب، متناسين عدم وجود منتصرين في الحرب العالمية الثالثة
ومن الظواهر الهامة نجد ظاهرة التغير السريع في تصنيف العداوات، فإلى ما قبل الجائحة كانت إيران في صدارة قائمة العداء الأمريكية، وسرعان ما احتلت الصين مكانة العدو الأول للولايات المتحدة وكل ما ترمز له.. وهي التي أسرعت بتوجيه الإدانة، وليس الاتهام، إلى الصين وألحقت بها أضرارا بالغة، واستغلت نشأة فيروس كورونا المستجد لشن حملة التشويه، وترتب على ذلك ضرر حقيقي، وسجل الربع الأول من عام 2020 نموا سلبيا لأول مرة من عام 1992، حسب صحيفة «ازفستيا» الروسية، وقارنت الوضع الاقتصادي الراهن بالوضع الذي كان في نهاية الثورة الثقافية عام 1976.
وهكذا لعبت الولايات المتحدة الدور الأكبر في تضخيم المشاعر المعادية للصين، وبدأ الأمريكيون ينشرون علانية أن الفيروس خرج من داخل مختبر سري في ضواحي مدينة «ووهان»، ولم يخرج من سوق الحيوانات البرية في المدينة نفسها، وأطلقت عليه «الفيروس الصيني» وتجاوز الموقف السلبي من الصين أمريكا، وفي منتصف هذا الشهر (أبريل 2020) انبرى الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون قائلا: «من السذاجة الاعتقاد بأن جمهورية الصين الشعبية تعاملت بشكل جيد مع فيروس كورونا». وأعرب دومينيك راب وزير الخارجية البريطانية عن رأي مماثل، مشيراً إلى أنه سيكون على بكين، بعد نهاية الوباء، الإجابة عن «أسئلة صعبة».
وفي أوقات الشدة يبادر الأصدقاء إلى مساندة بعضهم البعض، وفي طليعتهم روسيا الاتحادية، وفي محادثة هاتفية جرت بين الرئيس الصيني شي جين بينغ، ساند الرئيس فلاديمير بوتين «إجراءات الشركاء الصينيين التي أتاحت التحكم بالوضع الوبائي في البلاد»، ووصف محاولات اتهام الصين بعدم إبلاغ المجتمع الدولي في الوقت المناسب بغير المجدية.. وصاحب ذلك ضغط الحكومات الغربية على الشركات الكبرى لمغادرة الصين.. وكانت الولايات المتحدة أول من اكتشفت، في شباط- فبراير 2020، أن تفشي الفيروس في الصين ستصل تكلفته نحو 97 ٪ من المضادات الحيوية التي تستوردها من الصين. و80 ٪ من المكونات الدوائية لصناعة اللقاحات والأمصال والعلاجات، التي تأتي منها، وبعدها اكتشفت اليابان وبريطانيا وكوريا الجنوبية وألمانيا وفرنسا وإسبانيا أن اعتمادها على الصين ليس قاصرا على الأدوية، بل يمتد إلى مواد حيوية أخرى، وأدركت حكومات غربية أنها وقعت في الخطأ، وتحركت بسرعة لتنويع مصادر توريد وإنتاج السلع والأدوات الطبية والحيوية.
ولم يكن انتقال أرباب الأعمال الغربيين إلى الصين لمجرد الميزات التنافسية فحسب؛ إنما بسبب السوق الصيني؛ الأكبر حجما والأكثر اتساعا وقوة في العالم، بما لا يمكن تعويضه. وريثما يجري الانتقال إلى بلد أو مكان جديد، فإن المنافسين سيزاحمون «الوافدين»، ويقتسمون معهم ما هو ممكن من منتجات وأموال.
وهناك من يرى أن هناك حكومات تستطيع إقناع شركات كبيرة بالعودة لموطنها الأصلي؛ في الولايات المتحدة واليابان، بشرط تغطية جميع نفقاتها، ودفع الأرباح المتوقعة في السنوات الثلاث التالية، ونوه «آرام أفيستيان»، في مجلة «كومسومولسكايا برافدا» (21.04.2020) إلى إمكانية مصالحة الغرب لروسيا، وذلك لجرها إلى حرب ضد الصين، وبسبب نتيجة غير متوقعة لـ«طاعون 2020»، ويبدو أن الغرب تناسى الحملة التي أثيرت حول الجاسوس المزدوج سكريبال وغيرها من حملات واستفزازات وُجِّهت السنوات الأخيرة ضد روسيا؟.
وانتقلت العداوة الشديدة من إيران إلى عداوة صارخة لبكين، وأضحت «عدوا بديلا» للولايات المتحدة ودول الغرب، واتُّهٍمت بإخفاء حقيقة الوباء، وأدعى الرئيس الأمريكي أن ذلك تسبب في عدم اتخاذ أمريكا التدابير اللازمة في الوقت المناسب.. ورغم ذلك ثبت أن تعاظم ثقل الصين، وتراجع قوة الولايات المتحدة كان قائما بغض النظر عن الأزمة الحالية، وبلوغ التصعيد الأمريكي المتزايد وامتداده الأوروبي نقطة حرجة، وصارت المواجهة مفتوحة، وتضاءلت فرص احتواء الموقف، ومع ذلك نجد من أخذهم الحماس؛ لينضموا لإحدى القوتين، طمعا في المكاسب، متناسين عدم وجود منتصرين في الحرب العالمية الثالثة، إذا ما اندلعت لا قدر الله.