“اخترت البقاء في سوريا لإصراري على تغطية الأحداث ورفضت أي عروض عمل خارجها، إما نكمل الطريق للنهاية أو لا نسلكه أبداً، فالثورة مبدأ..”
بِضْعُ كلمات قالها الصحفي محمد هويش يبرر إصراره على تغطية الأحداث من مكان إقامته الحالي في سرمدا بريف إدلب الشمالي بعد أن نزح من جبل شحشبو في ريف حماة الذي أقام فيه خمس سنوات، فقد قدم إليها عام 2012 من قريته بريديج في ريف حماة.
إذن هي سلسلة من التنقلات خلال رحلة النزوح تطال حياة الصحفي وعائلته؛ فهو ليس شخصاً خارج دائرة التنقلات والتهجير التي يتعرّض لها السوري في وطنه.
ترافقنا هنا في هذا التقرير قصص لأربعة صحفيين، وقصصهم جزء يسير من روايات كثيرة تفصح عن حياة معظم الصحفيين داخل سوريا الذين كتب لهم القدر أن يعملوا ويقيموا في المناطق الساخنة.
وفي اليوم العالمي لحرية الصحافة، الموافق 3 آيار/ مايو 2020، يستذكر سوريون 422 مواطنا صحفيا في سوريا معظمهم معتقلون لدى النظام السوري ومهددون بـ”وباء كورونا” المستجد، فيما يجددون رثاء أكثر من 707 مواطنين صحفيين في سوريا منذ آذار/ مارس 2011 وحتى اليوم، أكثر من 78% منهم قتلوا على يد قوات النظام السوري، حسبما وثّقت الشبكة السورية لحقوق الإنسان.
“فقدت أمي وشقيقتي بقصف كنت أغطّيه”
محمد هويش بدأ العمل الإعلامي في نهاية عام 2012 عندما لم يجد من يغطي أحداث القصف الشديد والنزوح في ريف حماة لتنقل الواقع كما هو إلى العالم، كما وصف حالة الواقع الإعلامي بـ “نقص الكوادر الإعلامية” فاتجهوا إلى تصوير ما يجري بالصورة والمعلومة، وقد كانت أقصى معاناتهم حينها عدم توفر الإنترنت لرفع الفيديوهات وإرسالها للقنوات الفضائية ووكالات الأنباء.
يبدو أنها معاناة بسيطة أمام الموقف الصعب الذي تعرّض له “هويش” عند وصول خبر مقتل والدته وأخته بقصف لقوات النظام وروسيا كان يغطيه في أثناء عمله!
ولم يسلم “هويش” مع ما كان يوثّقه، بل باغته القصف والدمار مع زملائه الإعلاميين، ويصف ما حصل بأنه أحد المواقف الصعبة التي لن ينساها، فقد أصيب ثم نُقل إلى المستشفى دون وعي لدرجة أنه ظن أن زملاءه استشهدوا وهو الناجي الوحيد، لكن بعد خروجه من غرفة العمليات بُشر بنجاة من كان معه في القصف.
ما لا نعرفه عن “هويش” بأنه فقد قدمه اليُسرى وكسرت قدمه اليمنى بعد تغطيته لأحداث قرية الهواش في ريف حماة، ولم يعد لديه القدرة على المشي لتوثيق الأحداث بكاميرته، فاتجه إلى عمل تحرير الأخبار وكتابة التقارير عن الأحداث الميدانية.
“هويش” متزوج ولديه أربعة أبناء، لم تكن هناك مشكلة في إقامته فهو يعيش حاليا في منزل أحد أقاربه الذي هاجر إلى تركيا، لكنّ معاناته تكمن بصعوبة تأمين التدفئة والمأكل خاصة بعد أن توقف مصدر رزقه.
يروي “هويش” أحد المواقف الإنسانية الصعبة التي مرّت عليه بعمله الصحفي، قصة امرأة تسكن في ريف إدلب الجنوبي حالتها مأساوية. يقول: “عندما دخلت غرفتها انصدمت! ابنها الكبير معاق لا يستطيع المشي لأن وزنه أكثر من مائة كيلو، ابنتها التي تصغره خرساء، أما التي بعدها مشلولة.. العائلة كله معاقة ما عدا الأم التي تقوم بخدمتهم بظروف إنسانية صعبة حيث تفتقد المعيل!”
غياب عن الأسرة لأيام
“موقف لا أنساه إلى الآن.. بعد أن حدث قصف في مدينة سرمين أحد أفراد الدفاع المدني السوري (الخوذ البيضاء) اسمه “محمد أبو كفاح” متزوج وليس لديه أطفال، أصر على إخراج طفلة عمرها ما يُقارب شهرين من بين الركام وبقي ساعة ونصف لإنقاذها واستطاع ذلك، وكانت لا تزال على قيد الحياة.. من شدّة فرحه بكي كثيرا وبكينا معه فقد كان موقفاً صعباً”.
هذا الموقف الذي أبكى وأفرح الصحفي صافي حمام رغم ذلك للقصة نهاية مؤلمة أثارت حفيظته فقد : “قتل مجهولون هذا الشخص في مركز عمله، قبل أن يمثّلوا بجثمانه”.
صافي حمام الصحفي الثاني الذي نسرد قصته في تقريرنا، شاب بدأ عمله الإعلامي في مطلع الثورة السورية عندما كان يرسل الفيديوهات لتغطية أحداث معرة النعمان من مظاهرات وقصف وتوثيق للمعارك التي خاضها الثوار مع قوات النظام التي أدت لتعرّضه إلى عدة إصابات بعضها في معركة تحرير كفرنبل في أكتوبر/ تشرين الثاني 2012م.
ينطلق “صافي” عند التاسعة صباحاً إلى عمله بعد أن يودّع أطفاله الأربعة، وقد لا يعود إلا بعد مرور 24 ساعة وأحيانا 48 ساعة بحسب الحدث الآني حينها، وقد أوضح لأسرته ظروف عمله الصعبة: “عادة ما أخبرهم بمكان تغطيتي قبل أن أخرج من المنزل، وإن لم يتوفر الإنترنت قد اضطر لإبلاغهم في اليوم الثاني”.
“صافي” يعاني من غلاء إيجار المسكن في إدلب مثل أبناء مدينته وكذلك من غلاء التدفئة والطعام بالإضافة إلى عدم توفر الماء في ظل ارتفاع الدولار مقابل الليرة السورية، ندرة وصول الوقود إلى المناطق المحررة. مع ذلك كله لا يوازي معاناة قلبه مِن فقد أحبته: “أفتقد زملاء إعلاميين كانوا معنا أثناء التغطيات أو إنقاذ المدنيين رغم ذلك الألم لم يوقفنا عن إيصال الصورة والخبر العاجل وقصص الحالات الإنسانية”.
وجود المرأة في التغطيات الساخنة
لم تكن النساء السوريات ممن يعملن في قطاع الإعلام بعيدات عن المشهد، فالصحفية حنين السيد بدأ نشاطها الإعلامي منذ أن كانت طالبة في جامعة حلب حينما بدأ الحراك السلمي فيها، واضطرت أن تترك دراستها بعدما أصبحت مطلوبة لعدّة أفرع أمنية عدا عن رصدها لحملة الاعتقالات التي طالت الشباب الثوار هناك آنذاك مما شكّل ردّة فعل كبيرة لديها جعلها تتنازل عن دراستها مقابل توثيق الحقيقة: “فضّلت عملي كناشطة إعلامية من أجل حقوق الناس المطالبة بالحرية”.
حنين التحقت بالعمل الإعلامي عام 2016 بالمجال المكتوب والإذاعي ثم التقارير التلفزيونية، وقد طوّرت مهارتها إلى أن وصلت لإنتاج المواد كاملة من تصوير ونص ومونتاج، وقد أولت مواضيع المرأة والطفل اهتمامها بشكل خاص بصفتهم فئة “مهمّشة وضعيفة في الحرب” كما تراهم حنين.
تعرّضت حنين للخطر مرات عديدة عند تغطيتها للأحداث في معرة النعمان، ورغم ذلك “بقينا موجودين” كما تقول، إلى أن بدأ التهجير القسري بعد الحملة العسكرية وانتقلنا إلى ريف إدلب الشمالي.
“يومي مليء بالعمل من لمّا افتح عيوني إلى أن أنام كي أستطيع سد جميع احتياجات عائلتي” هكذا تصف حنين يومها، فمسؤولية أهلها على عاتقها منذ أن فقد والدها عمله كمعلم في مدرسة وحرمانه من كل حقوقه وتعويضاته والسبب تذكره لنا حنين: “نحن أبناءه كلنا ناشطون وإعلاميون فهو لم يذهب بعدها لمناطق النظام فأدى ذلك إلى خسارة عمله وراتبه. ولم يتوقف الأمر على ذلك فحسب بل فقدنا منزلنا في القصف ومورد رزقنا من الأراضي الزراعية”.
قد تضطر حنين إلى عدم العودة إلى منزلها عندما تقوم بتغطيتها الإعلامية في المناطق البعيدة عن المنطقة التي تقيم فيها، وأحيانا قد تغيب لثلاثة أيام حينما تنتج مواداً صحفية بالمخيمات لذلك لا تتوانى عن إخبار أهلها وطمأنتهم.
مرّت مواقف صعبة على حنين خلال عملها الإعلامي وحياتها الشخصية، تقول: “عندما نزحنا مع عائلتي وأقاربي وصلنا لنقطة مفترق الطرق كل منّا سيذهب إلى مكان يناسب ظروفه وأهمها تأمين السكن.. كم كان موقفاً صعباً عندما سلك كل واحد منّا طريقاً مختلفاً”.
ولا تنسى حنين أول يوم من رمضان عندما قضوه بعيداً عن منطقتهم، والعيد كذلك “قاسٍ بدون تكبيرات العيد التي اعتدت عليها” كما تصف، وتشعر بالضيق كلما سمعت خبر مقتل أحد طلابها الذين قامت بتدريسهم في بداية عملها المهني.
“العجز سيد الموقف” هذا ما رأته حنين في عيون أهالي المخيمات والأهالي النازحين مما يمنعها من التراجع عن تغطية الحدث بكل ما فيه من مخاطر: “لا يمكن أن نسكت عن حقنا ولا نتوقف عن مطالبنا التي نادينا بها في أول الثورة، حتى إن متنا.. فأولادنا سيكملون المسيرة التي بدأنا بها”.
غلاء المعيشة تخنق الصحفي
الصحفي مصطفى أبو عرب قصتنا الأخيرة في هذا التقرير .. فقد نزح في بداية أحداث الثورة السورية إلى مخيمات الشمال من ضيعته في منطقة جبل شحشبو بريف حماة الغربي القريب من سهل الغاب التي كانت نقطة تماس بين مناطق الثوار والنظام، وتنقل في مناطق عديدة إلى أن وصل إلى كفرتخاريم.
عمل “أبو عرب” على تغطية الأحداث الميدانية والعسكرية وله تغطيات عديدة في المخيمات وحملات النزوح منذ بداية الثورة السورية بالمجال المرئي والمكتوب وانتهى بالعمل الإذاعي.
يعاني “أبو عرب” ، الذي لديه ثلاثة أطفال، من غلاء الأسعار بسبب هبوط قيمة الليرة السورية، بما فيها غلاء المحروقات إن وجدت، وكذلك غلاء أسعار المواد الغذائية، وقلة توفر الماء وتكلفة استئجار السكن التي تفاجأ به، فلم يكن هذا العرف “الإيجار” موجوداً في منطقته، على حدّ قوله.
لا ينسى مصطفى موقف نجاته بأعجوبة في شهر تشرين الثاني/ نوفمبر عام 2015 أثناء تغطية عسكرية، يقول: “كنّا مجتمعين مع مجموعة إعلاميين وتفاجأنا بقذيفة أودت بحياة شخصين وإصابة يد الشخص الذي كنت أجري معه المقابلة!”. ولا يمكن لذاكرة مصطفى أبو عرب أن تنسى أسوأ خبر وصلها في الآونة الأخيرة وهو مقتل عبد الباسط الساروت في الثامن من يونيو/ حزيران العام الفائت.
ماذا بعد؟
لم يكن الصحفي السوري تحت خطوط النار خارج منظومة الخطر وضيق الحال والبعد عن العائلة التي قد لا يعود ويلتقي بها مجددا، ولم يكن لديه سوى خيارين، أن تخنق خطوط النار أهلها دون أن يسمع العالم ويرى ما يجري من مصادرة حرية الشعب أو يقفز فوقها، فإما أن تلتهمه النار وربما يتخطاها دون أن يضمن قفزته التالية أين سيعيش وما مصيره؟
نقلا عن بروكار برس