في 2011 عند اندلاع نار الثورة في “إدلب”، كان البعض يردد القول بأن هذا الحريق لو استمر إشعاله في سوريا، فإنه سيفوق في خطورته سنوات الحرب الأهلية في لبنان التي استمرت قرابة عقدين، ولا يزال لبنان يعاني العطل في كل أجهزته جراء فعائل “حزب الله” التي لم تقف عند حد، حتى باتت مهدداً لحق الوطن في البقاء، ولو ذهب الحزب والحزبية أدراج الرياح.
والعالم يرى اليوم حصاد الهشيم والجحيم السوري بعد مرور أكثر من خمس سنوات على هذا الحريق الذي أكل من الوطن السوري ثلثيه، وشرد من شعبه ثلثين أيضاً، والذي عُقدت من أجله “جنيفات” ثلاث، والأخيرة ستكون منعقدة في غضون ستة أشهر بقي منها أقل من أربعة أشهر، لعلّ حمام السلام الذي يحلّق في السماء السابعة يحل فجأة فيهدأ كل شيء.
ولابد أن نذكِّر بأن العالم ليس مشغولاً بسوريا فقط، وإنما كذلك بحرب كبرى عالمية حقاً ضد الإرهاب، وتم حشد معظم الدول العربية والإسلامية والغربية لاستئصال هذا السرطان العُضال في أقرب وقت حتى يطل السلام برأسه الذي قطعه “داعش” ومن لفّ لفه من الجماعات المتطرفة والمتعاطفة والساكتة عنها سكوت الشيطان الأخرس عن قول الحق المبين.
ومن متابعتنا للكارثة السورية، فلن نتحدّث عن مستقبل سوريا غير المنظور، لا، بل عن سوريا المنظورة في شهور، خاصة المرتبطة بفترة بقاء أوباما في حكم أميركا، وهي مدة تقل عن تسعة أشهر مقبلة.
والسؤال: لمَ هذا الربط، لأن أوباما في هذه المرحلة لا يملك سلطة اتخاذ القرارات المصيرية التي تأخذ من الوقت الكثير بسبب طبيعة النظام الديمقراطي الأميركي، فأوباما الفرد وحده لا يملك صلاحية القيام بأي عملية فيها رائحة للحرب، حتى وإنْ كانت محددة الهدف وموضعية. وهذا الوضع يتكرر بعد كل دورة انتخابية مدتها أربع سنوات، وقد مضى على هذه التقاليد السياسية الرئاسية أكثر من قرنين من عمر أميركا الدولة المستقلة عن الاستعمار البريطاني.
ولكن الإشكالية هنا بأن هذه البديهية السياسية تدور حولها سجالات ساخنة دون أن يتحقق شيء على أرض الأزمات المشتعلة منذ عقود في أفغانستان، والصومال، والسودان الذي أصبح سودانين، وأضيفت إلى القائمة دول أخرى كانت مستقرة لا تهزها ريح كسوريا، والعراق، وتونس، وليبيا.. إلخ.
وهذه “الباقة” غير السارة من الأزمات المتزامنة كلها خانقة وضاغطة على شريان العرب والمسلمين، سواء اعترفنا بذلك أو انشغلنا عنه بأمور أخرى من تدابير ومكابدات الحياة اليومية للشعوب، خاصة محدودة الدخل.
فذلك الـ “أوباما” الذي كان أول الداعين في 2011 لإطاحة النظام السوري ورئيسه، ليس هو هذا الـ “أوباما” نهاية الفترة الرئاسية، فهو لا يستعد اليوم لإرسال قوات برية لإطاحة النظام السوري ذاته والرئيس ذاته الذي عبر كل خطوط أوباما الحمراء، وحمّله المجتمع الدولي كله مسؤولية قتل أكثر من ربع مليون سوري!
وبدلاً من استعادة زمام المبادرة والفعل، نرى أوباما يخطِّئ من يفكر بإرسال قوة برية للاستعجال في حل الأزمة، بالتمسك بجنيف 3 الذي طال أمده دون الاتفاق حول أي مشروع مقنع للسلام، أو حل يرضي جميع أطراف الحوار البيزنطي الدائر هناك حول شكل الطاولة وتقسيمة الكراسي حولها، وليس حول أهداف المتحاورين والحلول الممكنة والحقائق والوقائع القائمة أو الناجزة.
ويؤكد أوباما كذلك في ضوء المدة المتبقية من عمر ولايته الثانية هذه، أن “دحر تنظيم داعش لن يكتمل في الأشهر التسعة المتبقية من فترة رئاسته الأخيرة”، وهي المدة المشهورة سياسياً في التداول الإعلامي الأميركي بفترة بيات “البطّة العرجاء” التي يمضي الرئيس في طورها ما تبقى له في البيت الأبيض من أيام دون أي فعل سياسي يذكر، فضلاً عن التدخل العسكري.
ورئيس أكبر دولة لا يمكن أن يتحدث بهذه الطريقة الواضحة دون أن يكون لديه علم بالواقع السوري المرير، وهو المحوط بجيش آخر جرار من المستشارين الذين اصطحبهم يوماً في رحلة واحدة إلى الصين، وكان عددهم آنذاك ثمانمئة فرد.
فهؤلاء ليسوا “كومبارس” كمّالة عدد أو مهرجين ومخادعين للمصالح الأميركية التي لا يختلف اثنان حولها، ولو كان ذلك حتى بجلافة وصلافة وتطرف “ترامب” الذي يزعم أنه يدافع عن مصلحة الوطن الأميركي الأم، في النهاية.
وأوباما يقرأ “جنيف 3” أنه على وشك الانهيار، لأنه لم يستطع وقف أنهار الدماء التي لم توقفها الهدنة على أرض الواقع، فقد أعلن على الفور وبلا تأخير، خططاً تقضي بإرسال نحو 250 عسكرياً إضافياً إلى سوريا لمساعدة المعارضة المسلحة في وقت يبدو فيه اتفاق وقف الأعمال العدائية وكأنه على وشك الانهيار.
هذه سوريا الأشهر المقبلة بلا رتوش أو إضافات، فالحرب الأهلية مستمرة مع استمرار وجود “داعش” في منتصف الطريق إلى أن يأتي الرئيس الأميركي المنتخب الجديد كائناً من كان! وهذا يعني أننا بحاجة إلى مدة لا تقل عن سنة أخرى لندخل خلالها عام 2017 ولم يتغير شيء في سوريا غير المزيد من القتل والتدمير للبنية التحتية المتردية أصلاً.
هنا يخيب أمل المعارضة في تحقيق أدنى سبل العدالة والمساواة والديمقراطية المنشودة لسوريا المستقبل، الذي لا يمكن صناعته بتجاهل الماضي ومعه الحاضر المر. فأمل البعض الذي لم يشارك في هذه المأساة أن تعود سوريا إلى عام 2011 قبل يوم من اشتعال حريق “درعا” ومن بعدها اتسع الحريق بدخول الـ “دواعش” لاحتلال ثلثي سوريا من دون أي مقاومة تذكر من النظام، فبأي مبرر يقول أوباما إن الحرب البرية غير مجدية، رغم عقم جنيف الثالثة والأخرى من ورائها والوطن السوري مستباح لـ “حزب الله” وإيران، فأين إذن حلم السلام في سوريا، وعلى من يقع الملام؟!
الاتحاد