عيون مؤرقة، وجه مصفر، تفكير شامل بما يحدث، تعقبه كلمات بعيدة عن الأحلام، لتفصل الواقع كما جرى، ” استقبالكم لنا خفف من حدة آلامنا”، هكذا نطقت أم حسن في الخامسة والثلاثين من عمرها، والتي غادرت حي الوعر المحاصر منذ أكثر من ثلاث سنوات بعد الهدنة المقامة بين النظام والمعارضة بوساطة الهلال الأحمر مؤخراً، وقدمت إلى مدينة إدلب المحررة.
حي الوعر البالغ عدد السكان الذين بداخله 12 آلف نسمة، تحاصره قوات النظام من الكلية الحربية المشفى العسكري، مشفى حمص الكبير، برج الغاردينيا، الأمن الجنائي وكتيبة المدفعية، وهي تمارس القصف يومياً بكافة أنواع الأسلحة الثقيلة، مما أدى إلى مقتل العشرات وإصابة آخرين بإعاقة مستدامة.
تضيف، حين سمعنا بالهدنة، للحظة الأولى كنا سعداء بأن باب الأمل للخروج من ذاك الحصار فُتح أمامنا بغض النظر عن الجهة المتجهين إليها، فمكوثنا لسنتين ونصف بمدرسة الشريعة بحي الوعر بعد هروبنا من حي البياضة بحمص القديمة قبل اقتحام الجيش له في نوفمبر 2011، أمر نخر عظامنا أنا وأطفالي، فلا كهرباء ولا غذاء ولا كساء أو تدفئة، لكن بعد أن جلسنا متأملين ألم الوداع للأحباب وفراق تراب حمص العدية، شعرت بثقل على صدري وكأنه جبال، والآن لا عودة لنا عن قرارنا لأننا بأمس الحاجة للخروج منه لنتعافى نسبياً ونعود له محررين بإذن الله.
إن ارتفاع العدد السكاني نتيجة نزوح المئات من سكان حمص القديمة إلى حي الوعر سابقاً و المترافق بالحصار، من الطبيعي أن ينعكس سلباً على مجمل المواطنين، فغلاء الأسعار أكبر عامل ضغط على نفوسنا، فحتى ربطة الخبز التي باتت شبه مفقودة بالأشهر الأخيرة، كانت تباع بمئة ل.س رغم احتوائها على ست أو سبع أرغفة، ورداءته كبيرة فلا طعم له ورائحته كريهة فضلاً عن لونه الشديد السمار والمحروق أحياناً، هذا غير أن كيلو الملح الواحد سعره 1000 ل.س، وعبوة الزيت الصغيرة بأربعة آلاف، والنظام كل عدة أشهر يدخل لنا فقط ( البطاطا، البصل اليابس، البندورة)، ناهيك عن انقطاع المحروقات نهائياً منذ سنتين.
تتابع، “زوجي البالغ من العمر 45 عاماً، قد كبلته مآسي الحياة بعد نزوحنا من منزلنا، وتضاعفت همومه عندما أصيب طفلنا حسن برصاصة قناص تابع للنظام أصابت نخاعه الشوكي، أثناء عودته من مدرسته فهو طالب في الصف الأول كل ذنبه أنه أراد ان يمارس حقاً من حقوق الطفولة المسلوبة ليجلس مشلولاً بدون علاج يذكر، لن تندمل جراحنا أبداً فلا نكاد أن نجتاز ابتلاء إلا لنواجه غيره، فقد أصيب زوجي برصاصة قناص أيضاً في ساقه قبل سبعة أشهر من مجيئنا لإدلب، مما سبب له عائق حيال أي أمر يستعد للعمل به، ففي حين كنا نحاول أنا وزوجي مواجهة الصعاب بالإرادة، اصطدمنا بذكرى ميلاد ابنتنا هاجر التي نالت من اسمها النصيب الوافر، ففي يوم ميلادها الأول بدأ الحصار على الوعر، وبعيد ميلادها الثالث هجرت منزلها إلى وطن آخر، ولسنا بدراية عن ما يخبئه الدهر لنا ولها.
علماً أن النظام كان يسمح للمصابين والطلاب فقط من الخروج من الوعر والعودة إليه، فالطلاب عند بداية المرحلة الإعدادية يحق لهم متابعة دراستهم خارج حدوده وكثير منهم تعرض للإهانة والضرب وأحياناً الاعتقال، بل حتى المصابين لم يسلموا من بطش نظام الأسد فتارة يعود أهاليهم برفقتهم وتارة أخرى يمسون رهن الاعتقال والتعذيب منساقين أغلبهم من مشفى الرازي”.
تستمر بحديثها النابع من قلب محروق، “عائلتي لها حكاية مع غدر قناصي النظام فأمي باتت ضحية لتلك الرصاصات الحاقدة، تاركة خلفها لي نائبة شديدة العذاب، فإخواني الثلاثة المحرومين من أبسط حقوقهم كالتعلم، كان محمد أكبرهم عمره عشر سنوات، يليه أنس 8 سنوات، وبرعم طفولتهم عبد الحي خمس سنوات، مع أبي معيلهم الوحيد الذي بشعره الأبيض يروي حياته الصعبة بعد أن فقد زوجته”.
تختم حديثها وهي تجهش بالبكاء، منهارة الأعصاب، مفعمة بحب متابعة مسيرة الحياة لعلها ترد عليها بالإيجابية، فتنقلب حياتها من بأس لفرح، فتقول:” آملنا كبير بالعودة لديارنا، إذا ما تغيرت نفوس من بداخلها، وأحببنا بعضنا جميعاً، ووددنا لو أن كل خير لنا يطبق للجميع، فصحيح أننا هُجّرنا من بلدنا الأم حمص، لكن أهلنا في مدينة إدلب لم يشعرونا بالغربة، حينما رحبوا بنا بحفاوة، فعلى الرغم من أن عددنا كان يفوق 700 شخص، إلا ان كافة مستلزماتنا كانت موفرة من قبلهم، وبإمكاننا أن نطلب منهم ما نشاء ويقابلوا طلبنا بالاستجابة السريعة، والحمد لله الذي ابتلانا من جهة وأعاننا في الجهة المقابلة”.
المركز الصحفي السوري ـ محار الحسن
