منذ سبتمبر 2016، موعد إجراء بيونغ يانغ لتجربتها النووية الخامسة، يتواصل التصعيد في شبه الجزيرة الكورية، وقد تفاقم الوضع بعد تسلم الرئيس دونالد ترامب لمهامه والتلويح بالرد على ابتزاز زعيم كوريا الشمالية كيم جونغ أون، لكن المفاجأة الإيجابية أتت في 9 مايو الحالي، من سيول عاصمة كوريا الجنوبية مع انتخاب الليبرالي الديمقراطي مون جاي-إن بعد عشر سنوات من حكم المحافظين المتشددين.
إلا أن كيم الثالث زعيم حزب العمال الشيوعي الحاكم في بيونغ يانغ (حفيد كيم إيل سونغ “الشمس الساطعة التي لا تغيب”) سرعان ما رد على اليد الممدودة بتجربة ناجحة لإطلاق صاروخ باليستي متطور. هكذا إزاء التجاذب الدولي والإقليمي حيالها ستبقى هذه المنطقة أحد أبرز مراكز النزاع المحتملة لتحديد الأحجام في آسيا والعالم.
بيد أن التوازنات الدقيقة بين اللاعبين المعنيين، وصعوبة الرد على ترسانة كوريا الشمالية ووصول قيادة رشيدة في سيول، يمكن أن تقود لبدء مسار إعادة توحيد الكوريتين مع ما ينطوي عليه من مخاطر وتحديات.
قبل الوصول إلى هذا الهدف لبلاد تكرس تقسيمها منذ 61 عاما، يتوجب تفسير بعض الإشارات من هنا وهناك. أول المعنيين الرئيس ترامب الذي تعهد قبل بدء اجتماع مجموعة السبع للدول الصناعية الكبرى في صقلية يوم 26 مايو، بالعمل على حل الأزمة الكورية الشمالية ويأتي ذلك بعد إبداء استعداده أوائل هذا الشهر بأنه “سيتشرف” بلقاء الزعيم الكوري الشمالي كيم جونغ أون في الظروف المناسبة.
هذه الانعطافة في الخطاب بعد التهديد بالويل والثبور وعظائم الأمور وتحريك الأساطيل وأنظمة الدفاع الصاروخي تنطوي على واقعية سياسية تفرضها قوانين اللعبة الدولية المعقدة والوقائع على الأرض، أم لا تعدو كونها مناورة من أجل التحضير لضربة مفاجئة في الوقت المناسب.
وثاني المعنيين الصين التي تتعامل مع الأزمة بحذر لأنها تعتقد أن الضغط الكبير على بيونغ يانغ يمكن أن يؤدي إلى نتائج عكسية ولذا فهي تلتزم بمعارضة تركيز نظام دفاعي صاروخي متطور في كوريا الجنوبية لكي تحتفظ بإمكانية “عقلنة” القائد الذي يستند إلى نظريات جده “الزعيم العظيم” عن “إرادة الإنسان المحرك لكل ما في الطبيعة”.
وثالث المعنيين اليابان التي لها تاريخ ودي مع كوريا وتخشى من انهيار التوازنات ولكنها تعمل تحت السقف الأميركي. ورابع المعنيين روسيا التي لا تمتلك نفس نفوذ الصين، لكنها لا تلعب تماما لعبة التهدئة لأن ارتباك واشنطن مع هذه الأزمة لا يزعجها.
لا تكتمل الصورة من دون كوريا الجنوبية اللاعب الدائم والتي يقودها الآن مون جاي- إن، وهو ابن لاجئين من كوريا الشمالية (قضى أول سنين عمره مربوطا إلى ظهر أمه التي كانت تمتهن بيع البيض من أجل كسب لقمة العيش)، وكشف مون في كتاب نشره في وقت سابق من هذا العام عن أنه يحلم بالعودة إلى قرية هونغنام التي ينحدر منها والداه في كوريا الشمالية. وكتب “أفكر في قضاء ما تبقى من حياتي هناك في هونغنام أمارس عملا دون أجر. عندما تتوحد الكوريتان سلميا، أول شيء أرغب في عمله هو اصطحاب والدتي البالغة من العمر 90 عاما إلى مسقط رأسها”.
وبناء على هذه المعطيات، سيكون هناك سباق محموم بين الاتجاه السلمي لاحتواء التوتر من خلال أسلوب رئيس كوريا الجنوبية في بناء الثقة مع الشمال تحت عنوان “شعاع الشمس”، وبين اتجاه سباق التسلح مع تجارب زعيم كوريا الشمالية، وكل ذلك تحت العيون الساهرة للإدارة الأميركية والقيادة الصينية.
يلوح كيم جونغ- أون بإجراء تجربة نووية سادسة ويُعتقد أن كوريا الشمالية تطور صاروخا باليستيا عابرا للقارات قادرا على حمل رأس حربي نووي والوصول إلى البر الرئيسي للولايات المتحدة، وكل ذلك لن يقود إلا إلى حرب تدميرية ويذكرنا بخطأ ذلك الجنرال الياباني عشية الانخراط الأميركي الواسع في الحرب العالمية الثانية.
ومن الواضح أن لا مصلحة لأحد في الوصول لذلك لأن الحروب التجارية والنفوذ في آسيا والمحيط الهادي يمكن إدارتهما من دون مواجهات مكلفة، خاصة أن الحفاظ على الوضع التقسيمي القائم بين الكوريتين من دون خروجه عن السيطرة، يجمع بشكل أو بآخر ما بين واشنطن وبكين وطوكيو وموسكو تبعا لمصالح كل قوة على حدة.
في المقابل، يمكن لنهج مون جاي-إن أن يحدث الفارق، لأن هذا الرئيس الآتي من المجتمع المدني ومن الحركة التي كافحت من أجل الديمقراطية في بلاده، ليس بذلك الداعية للسلام بسذاجة، إذ سبق له أن عمل مستشارا إلى جانب صديقه الرئيس السابق روه مو-هيون الذي ذهب في 2007 إلى بيونغ يانغ والتقى برئيسها السابق كيم جونغ-إيل، وحينها أثمرت سياسة “أشعة الشمس” عن اتفاقيات تهدئة وتعاون أخذت تحول المنطقة العسكرية المنزوعة السلاح (تمتد بعرض 4 كلم وطول 238 كلم وسط شبه الجزيرة الكورية على طول خط العرض 38) إلى حاضنة تقرب تحقيق حلم إعادة توحيد الأمة الكورية.
بعد تسع سنوات من سيطرة المحافظين في سيول وانقطاع الحوار مع بيونغ يانغ، يعرب الرئيس الجديد عن استعداده للذهاب بعيدا والبدء بإعادة الاتصالات العسكرية لتجنب التصعيد والأخطاء القاتلة، لكن نجاح مون جاي-إن سيرتبط كثيرا بحواره مع سيد البيت الأبيض، وربما يجد دونالد ترامب ضالته في خط الحكم الجديد في كوريا الجنوبية ويخرج من المأزق الحالي مع كيم الثالث.
في مواجهة كوريا الشمالية، العدو الأقدم لأميركا في آسيا، و”الأمة الأكثر خطورة على كوكب الأرض” حسب بعض الاستراتيجيين يمكن لشعاع الشمس القادم من سيول أن يبعد شبح نيران الصواريخ ويفتح آفاق توحيد كوريا.
العرب اللندنية- د.خطار أبو دياب