يجدر أن يمر القارئ الكريم مرورًا ولو سريعًا على مقال كتبته قبل أسبوعين من التوصل لاتفاق إطاري بين الغرب وإيران بعنوان “واشنطن والسؤال الإيراني الملح”، يمثل توطئة مهمة لهذا المبحث التكميلي الذي يتحدث عن شكل الشرق الأوسط في عيون صناع القرار في الولايات المتحدة بعد توقيع الاتفاق، في المقال الأول تحدثت عن سياسة الاحتواء كسلوك دبلوماسي أمريكي متبع وما يمكن أن تفسره من تحركات أمريكية باتجاه توقيع اتفاق مع طهران بشأن برنامجها النووي، في هذا المقال ننظر نظرة استشرافية لشكل الشرق الأوسط الآن وغدًا، ما بعد حدود الثلاثين من يونيو المقبل (موعد توقيع الاتفاق النهائي المزمع).
طموحات واشنطن وموقع العرب منها
خلال الأسبوع المنصرم أنهى وزير الدفاع الأمريكي أشتون كارتر زيارة وصفها أمام طلبة علوم الدفاع في معهد ماكين للدراسات بأنها “مهمته الأولى” لمنطقة أسيا الباسيفيك، والتي قال إنها غاية توجه الولايات المتحدة مستقبليًا باعتبارها المنطقة التي ستحمل نصف سكان الكرة الأرضية في العام 2020، كارتر قال إن جهود بلاده منصبة على إحداث توازن في القوى لمجابهة الخطر الصيني عبر تقربها التاريخي مع فيتنام والتواجد العسكري البحري الأمريكي في منطقة الباسيفيك، لا بد أن كارتر مر في طريق عودته على منطقة الشرق الأوسط وتحديدًا الجزء الأسيوي منها، ولا بد أن مساعديه أوجزوا له تطورات الضربات الجوية التي تقود السعودية تنفيذها تحت مسمى “عاصفة الحزم” ضد المسلحين الحوثيين في اليمن، الرجل الذي كان عنوان محاضرته في معهد ماكين عن الإستراتيجيات المستقبلية الأمريكية لمنظومات الدفاع الإقليمية، تحدث عن إستراتيجية دفاعية أمريكية متخطية للحدود تعتمد منطق “إعادة التوازن” والتأكد من أن لكل قوة قوة مواجهة لها وأن الطردي والعكسي فيها يعمل في نهاية المطاف على خدمة مصالح واشنطن.
ورغم أن كارتر لم يشر تصريحًا إلى الشرق الأوسط لكنه تحدث عما أسماه ارتفاعًا في معدلات التسليح وشيوع منطق القوة الفوقية المتعدية التي تقوم من خلالها دول بغزو دول جويًا عبر ضرب أهداف من شأنها أن تقوض الخصم ولا تقضي عليه، وإنما تأمن أخطاره، كارتر أكد أن مثل هذا المنطق في الحروب الجديدة مستلهم أساسًا من فكرة الطائرات من دون طيار التي أثبتت نجاحها في استهداف العدو دون تكلفة بشرية ومادية ضخمة خاصة مع إثبات فشل منطق الإنزال البري والعمليات الواسعة خلال السنوات العشرين الأخيرة.
حديث كارتر الذي غلبت فيه نبرة الإستراتيجيات العسكرية، يمكن أن يصلح استهلالاً لنقاش تغلب عليه المصالحية الدبلوماسية، فأي حرب على الصعيدين الدبلوماسي والعسكري ترتبط كل منها بالأخرى ولا تنفك عنها، وتغدو إستراتيجية التوازن التي تحدث عنها كارتر والضربات الجوية في اليمن نقطتان مركزيتان يدور حولهما محور الحديث الذي سنحاول فيه تقصي ما تطلبه واشنطن من اتفاقها مع إيران، والذي إن كان في ظاهره جدل حول امتلاك طهران للسلاح النووي إلا أن باطن الأمر يحمل الكثير عن الترتيبات الإقليمية الجديدة التي تصبو واشنطن للوصول إليها ما بعد الاتفاق .
يبني الرئيس أوباما الذي تحدث لأكثر من خمس وسائل إعلامية مختلفة في أقل من أسبوعين، نظرته المستقبلية أو ما يصفها بمذهب أوباما للشرق الأوسط ما بعد اتفاق مزمع مع طهران بشأن برنامجها النووي على أساسين هما:
أولاً: يسمح الاتفاق النووي مع طهران بتقويض خطر عسكري نووي محتمل لبلد أعلن العداء العسكري للولايات المتحدة وحليفها إسرائيل عبر عقود ثلاثة ونصف، وينقلها لحالة من حالات الاحتواء بما ستسمح به عملية رفع العقوبات الاقتصادية عن طهران من تحول سياسي داخلي يدفع باتجاه وصول الإصلاحيين أكثر فأكثر للسلطة خلال العقود القادم خاصة وأن انعكاس رفع هذه العقوبات سيلمس رجل الشارع العادي الذي لن يفضل العودة لماض مجحف؛ لذا فإن تراجع المحافظين سيكون أمرًا مضمونًا بحسب مذهب أوباما
ثانيًا: حتى مع احتمال توسع إيران في المنطقة بعد استقرارها اقتصاديًا وعبر حلفائها الدائمين فإن ذلك سيكون محكومًا بمحدد جديد، وهو نشوء ردع سني دفاعي يمثل ستارًا حديديًا حول طهران، بما سيقوض محاولات طهران في التوسع ويقلل من خطرها على إسرائيل شيئًا فشيء عبر تحول خطوط التماس من صراع عربي إسرائيلي لصراع سني شيعي، وهنا يعود الحديث إلى سياسة التوازن التي تحدث عنها كارتر والتي قال إنها تحقق الأهداف الإستراتيجية بأقل الخسائر وعبر حلفاء واشنطن في المنطقة، والتي تمهد عمليًا لخروج أمريكي تدريجي من نار الشرق الأوسط المستعرة إلى مستقبل أكثر أولوية يلوح في أفق أسيا عبر الصعود الصيني الذي يمثل التهديد الحقيقي لها، وهو ما أكده وزير الدفاع الأمريكي في حديثه عن زيارته الأخيرة لمنطقة الباسيفيك
وقبل أن نتحول للحديث عن موقع حلفاء واشنطن العرب من المذهب الأمريكي الجديد في التعامل مع إيران، والذي يتضح من النقطتين السابقتين أن العرب في أبسط صور الوصف جزء من معادلة واشنطن، وأنهم يتصرفون دون التأكد من حصولهم على ما يكفي لضمان مصالحهم الآنية والمستقبلية في المنطقة، يغدو لزامًا أن نبرز هنا وجهة نظر الجمهوريين في مجابهة مذهب أوباما، والتي عبر عنها وزير الخارجية الأمريكي الأسبق هنري كيسنجر في مقاله الأسبوع المنصرم في صحيفة وول ستريت جورنال، والذي وجه فيه تساؤلات مهمة لإدارة أوباما يمكن إجمالها في أسئلة ثلاث:
– ما الذي يضمن للولايات المتحدة تحفيز الاتفاق للتحول السياسي الداخلي في طهران نحو الإصلاحيين؟ وهل نجحت واشنطن في فعل ذلك في أي من أقطار الشرق الأوسط أو العالم التي كان لها دور عسكري أو دبلوماسي فيها؟ وهل حولت موجة الربيع العربي الشعوب في الشرق الأوسط إلى الليبرالية والصداقة مع واشنطن أم سمحت لصعود المتطرفين أكثر فأكثر؟
– هل فكرت واشنطن في إستراتيجية واضحة لما تريد أن يكون عليه الشرق الأوسط بعد هذا الاتفاق، حتى وإن كان العرب السنة سيأخذون زمام المبادرة في مجابهة ما يعتقدون أنه خطر إيراني للتمدد الشيعي الطائفي على حسابهم؟ وهل يمكن لهذا التوازن أن يكون منطقيًا لو أن سباقًا للتكنولوجيا النووية انطلق في المنطقة لتتحول لباكستان – الهند جديدة؟
– الحديث عن الانسحاب الأمريكي من الشرق الأوسط لا يبدو واردًا حقًا بعد الاتفاق، والذي سيفرض على واشنطن قبل أن تتبعه أن تتوصل لتسويات شاملة في سوريا والعراق، بين طرفين افترضت هي في الأساس أنهما عدوان، كي يمكنها تطهير المنطقة من تمدد الجماعات المتطرفة، أين انسحاب واشنطن إذًا؟
مستنقع اليمن، أسئلة التوقيت والأهداف
كل الحروب تُخاض ثلاث مرات: هناك صراع سياسي حول ضرورة الذهاب إلى الحرب، وهناك الحرب نفسها، وهناك صراع على تفسيرات مختلفة لما تم إنجازه والدروس المستفادة منها، هكذا يصف المسؤول الكبير بوزارة الخارجية الأمريكية سابقًا، ريتشارد هاس، منطق خوض الحروب، لكن الدول العربية التي ذهبت لمجابهة الحوثيين في اليمن فشلت في الوقوف أمام العبارة الأولى، ووضع تفسير واضح منطقي، فأين التبرير السياسي الذي يضع هدفًا واضحًا يمكن معه أن نقول إن توقيتها وظروفها وسياقها يخدم المصالح العليا لهذه الدول في الأساس، ولا يمثل جزء من معادلة الأخرين أو بالأحرى ترتيبات واشنطن الجديدة في المنطقة؟
لقد كان منطلق الحرب من حيث التوقيت مثيرًا للتساؤل، خاصة وأن مجابهة الحوثيين في اليمن سبق واستدعيت قبل أشهر لكن أحدًا لم يحرك ساكنًا؟!، وهل من مصلحة الدول العربية أن تدخل في حرب تأخذ شكلاً مذهبيًا طائفيًا على مستويات إعلامية وجماهيرية، ليست بالضئيلة، ضد أكثر أذرع إيران في المنطقة ضعفًا؟ وهل يبدو من مصلحة الدول العربية أن يتم تدويل الأزمة اليمنية وتحويل مجابهة الحوثيين فيها إلى صورة من صور الصراع الإقليمي الممتد مع إيران؟ وما الذي يعنيه التلويح بتشكيل قوة عربية مشتركة في هذا السياق سوى أنه يخدم بالأساس النهج الأمريكي الجديد في المنطقة، والذي تحاول من خلاله كما ذكر وزير دفاعها “إحداث توازن بين قوتين” يبعد إسرائيل عن ساحة المعارك وينقل خطوط التماس من صراع عربي إسرائيلي ولو دبلوماسي، إلى صراع سني شيعي، يضرب أول ما يضرب تكوين وشكل وبنية الدول العربية التي يمثل المكون الشيعي فيها أساسًا تاريخيًا لا يمكن إغفاله.
على الدول العربية التي تخوض الحرب في اليمن إذا ما أرادت التأكد من تحقيق مصالحها أولاً أن تبتعد عن توسيع رقعة الحرب ضد الحوثيين، وأن تضفي على المواجهة معهم الطابع المحلي، الذي يضع هذه الجهود في إطار حل أزمة اليمن وإجبار الحوثيين على التفاوض، لا أن تكون هذه الجهود عنوانًا لحرب إقليمية ضد إيران لم يتأكد العرب، على الأقل حتى الآن، ما المصلحة من ورائها وما التوقيت المناسب لها.
صحيح أن العرب من منطلق مصالحهم، يجب أن يتحركوا لمواجهة التوسعات المصالحية الإيرانية المبنية على طموحات جيوإستراتيجية التي تضرب في خاصرة منطقتهم، لكن طرح التحالف السني، عبر تقارب سعودي تركي، ومحاولة استدعاء باكستان أخيرًا إلى المشهد لا يضفي سوى طابع الطائفية على شكل مثل هذا التحالف والذي يخدم بالأساس الإستراتيجية الأمريكية، في محاولة خلق قوتين متوازنتين في منطقة ما بعد الاتفاق النووي مع طهران، ولا يمكن لمن ينظر للخريطة والجغرافيا السياسية للمنطقة أن يخطئ التقدير في أن التحالفات الإقليمية فيها تاريخيًا، لم تنشأ على أساس عقائدي، وأن النظام العالمي الجديد فرض بطبيعة خصائصه على التحالفات أن تقوم أساسًا على المصالح الاقتصادية والأمنية المشتركة، ووفق هذا التقدير فإنه لا يمكن لأحد أن يتصور أن تشترك تركيا في تحالف عدائي صريح ضد طهران، وهذا ما تفسره الزيارة الأخيرة للرئيس التركي إلى طهران .
إن مضي العرب ودول الخليج تحديدًا قدمًا في مثل هذا النهج سيستتبع عمليًا سعيًا حثيثًا لشراء أسلحة ومعدات عسكرية من الولايات المتحدة، وهي الخطوة التي ستضيف رقمًا مهمًا في خانة الإستراتيجية الأمريكية لشرق أوسط ما بعد الاتفاق النووي عبر توازن القوى العسكرية، لكنه وفي المقابل سيساهم في تعزيز سلطة الأنظمة العربية دون أن يحقق أهدافًا إستراتيجية على المدى البعيد لصالح مستقبل شعوبها.
يقول منطق الحروب إن الجميع يفشلون دائمًا في تحديد موعد انتهاءها، وهكذا فإن الحرب التي بدأت في اليمن لا يمكن توقع موعد انتهاءها، خاصة مع تأرجح الهدف منها بين أهداف قصيرة المدى؛ أهمها تقويض الحوثيين وأهداف أوسع وأهمها تقويض إيران ومساعي حلفائها في المنطقة، ومن هنا فإن استمرار الحرب التي لا يبدو لأي من هدفيها القصير أو البعيد أنه سيتحقق على المدى المنظور، طالما استمرت إستراتيجية الضربات الجوية التي لا تُنهي حربًا، سيساهم بشكل غير مباشر في خروج صورة الاتفاق النهائي مع طهران نهاية يونيو بشكل يطمئن حليف الولايات المتحدة في الشرق الأوسط، إسرائيل، أن ترتيبات جارية في المنطقة تعزز من بناء ستار دفاعي سني يمثل غشاءً صلبًا لدائرة الاحتواء الأمريكي لخطر طهران ما بعد الاتفاق النووي.
اضمحلال الربيع العربي وتراجع خطابه
أين الشعوب هنا؟ أين الربيع العربي؟ أمام ما يحدث في الشرق الأوسط من خطاب المصالح السياسية للأنظمة وليس للشعوب، تراجع خطاب الربيع العربي واضمحلت سردية تغيير الأنظمة المستبدة، لصالح دعمها والوقوف معها أمام خطر، يصفه الخطاب الجديد، بأنه تمدد إيراني تارة أو بأنه فشل للدولة العربية ومنظومتها وانهيار لشعوبها تارة، لقد كان لافتًا أن موجة الربيع العربي وقت ازدهارها طرحت خطابًا تصالحيًا مع كل القوميات والأعراق، وأعطت لها حق الوجود والمشاركة في دولة ما بعد الاستبداد، لكن نشوء الأخطار الأمنية عبر تمدد التطرف، وانهيار بنية الدولة العربية والعقد الاجتماعي القديم لها، دون وجود تصور جديد عزز من استبداد المستبد، لقد فضل رجل الشارع العربي أن يعود مجددًا لصفوف المحيين لنضال الجيوش العربية؛ لصالح بقاء النظام واستتاب الأمن، ونسي شيئًا فشيئًا أن هذه الأنظمة هي سبب أزماته المتكررة.
لقد استطاعت المنظومة العربية القديمة أن تعود مجددًا للواجهة، ولهتافات الشعوب بعد عامين من النداء بسقوطها، عبر خلق سرديات تستحوذ على عقول الشعوب التي اعتادت أن تقايض الحرية بالأمن لصالح مرور يومي سالم حتى وإن لم يتغير الغد.
إن نجاح طهران في توقيع اتفاق نووي مع الدول الغربية سيعزز من مخاوف المنظومة العربية القديمة من خطر محدق على أنظمتها، يأتي هذه المرة عبر لاعب إقليمي يملك أذرعًا قوية سياسية وعسكرية في خاصرتها، بل وسيقف غدًا على مسافة واحدة، وإن كان المنظور مختلفًا، مع حليفها المستديم الولايات المتحدة، ذلك الحليف الذي اعتادت هذه المنظومة أن تكون تابعًا لسياسته التي تحفظ لها أمنها وتعزز من سلطتها .
لا شك أن الربيع العربي وسرديته ستضمحل أمام الصراعات المتراكمة في المنطقة، ويبدو أن العقلية العربية التي تعظم موقع الدين من الحياة قد تذهب في صراع مذهبي خاضته تاريخيًا من قبل، سيمثل ضربة جديدة لسردية التغيير في العالم العربي التي توالت عليها الضربات منذ فشلت في مصر، واستحالت عنفًا في سوريا، ونزاعًا مسلحًا في ليبيا، ولو أن بريقها لم يخفت في تونس.
نون بوست