لو سئلنا بماذا تحلم امرأتان تسكنان في الشام أو بيروت؟ سنجيب، بقليل من الحرية والطمأنينة وبكميات أكبر من البنزين ومن الرجال الجيدين
لكننا مجنونتان بما يكفي، لنبدأ نصاً بـ”لكنّ”، ثم نكتبه معاً بطلاقة، ولا يلحظ أحد الفرق، بين ما أكتبه أنا وما تنصّه هي. مرّة كتبت مادة لأحد المواقع لكنها لم تُنشر، بعد أيام كتبت هي عن الموضوع ذاته في موقع آخر، ظنّ رؤسائي أنني الكاتبة باسم مستعار وغضبوا. ثم إننا نتشابه في أشياء كثيرة، حتى إن آراءنا في الحب والرجال والكسل واللامبالاة تكاد تكون واحدة. وحين تشتم إحدانا الثانية بعد قراءة نصّ لها، لا تغضب الأخرى بل تقول لها “لوف يو مور”. الشتائم في لغتنا، تعبير عن الدهشة. ولا يعيش نص واحد لولا الدهشة. الكثير من الكتابة والغرابة والتشابه قد تجمع سيدتين في عاصمتين مختلفتين. من يكتب الآن؟ أنا أو هي؟ لن تعرفوا أبداً. سنستمتع بهذا التخبط إلى أن ينتهي النص، وأيضاً إلى ما شاء الله.
نعيش في بلدان تعجّ بالأحداث والكوارث والمآزق، وهذا ما يدفعنا إلى اللامبالاة في النهاية. هناك تخمة من الصدمات، حين يصل إليها المرء، تغدو الحياة شديدة الوضوح أمامه. لا أدري متى بدأت اللامبالاة، ربما حين أدركنا أن لكلّ شيء نهاية كالطوابير والحروب تماماً، كالحبّ والصداقة والخوف والديكتاتورية والأحلام الكبيرة، وتلك التي تسمّى صغيرة، كبت الحريات، الموروثات الاجتماعية والدينية وعنادنا في وجه هذا كلّه. عنادنا الذي جعلنا نواجه أكبر مخاوفنا بالكتابة و”الشوبينغ” والقراءة، إنها خلطة عجيبة. أكتب هذا بينما يتأخر “الباص” بسبب قطع الطريق إثر احتجاج لسيارات الأجرة لزيادة مخصصاتها من البنزين. أتذكر جميع اللحظات التي كتبت فيها، لكن أكثرها حضوراً تلك التي كتبت فيها عن الأحذية الرجالية، كدتُ أموتُ يومها إثر سقوط قذيفة هاون، حينها اختبأتُ في محل للأحذية الرجالية، منذ تلك الحادثة أعاني من هوسِ مراقبةِ أحذية الرجال. الآن أمامي حذاء جلديٌّ قديم، حذاء رياضي أبيض و”شحاطة إصبع” بلاستيكية، وحذاء لجندي أتى بحثاً عن إجازة. الأحذية على كثرتها تختصر أحوال البلاد والناس، الأغنياء الجدد، الطبقة الوسطى والفقراء ثم المقاتلين. في كلّ حال، لا يجوز اختصار الأوطان بالأحذية الرجالية!
نحن سيدتان ترغبان في حياة هادئة، نصنع صخبها بأيدينا، ولا نريد أبداً أن نمضي الوقت في الانصياع للصخب الذي تحدثه مجتمعاتنا وعجلاتها المستعجلة التي تبث لوثاتها فينا، لتجعلنا تعيستين وهشّتين كهذه البلاد الواسعة والضيّقة في آن.
لمناسبة العجلات، نحن غير قادرتين على التحرّك. لا بنزين في بيروت ولا في الشام، ولسنا من محبي الطوابير. نفضّل تمضية الوقت في التسكّع، أو الكتابة في أحسن الأحوال. إننا نبحث عن الهدوء في هذه الجلبات الكثيرة، عن وقت نقرأ فيه كتاباً من دون التفكير بأوطان تنبذنا لكثرة المحاولة. كان غريباً على سكان مدينتي أن أرتدي بنطال “هيبيز” واسعاً جداً ومفتوح الجانبين حتى الركبتين، وسط ساحة كبيرة. نادى عليَّ رجل يركب دراجة: “شوية حشمة بس! شوية”، نظر المارون إليّ وكأنهم يرددون خلفه أيضاً: “القليل من الحشمة”. ابتسمت ساخرة وكانت ابتسامتي أكثر غرابة من بنطالي للمارين، سخرتُ من كرش الرجل الكبير، وأسنانه الصفر التي بانت حين أبطأ القيادة ليتأكد من سماعي درس الأخلاق. نعم مهما بدت رائحته وشكله منفرين سيبقى أفضل مني، فتهمة ارتداء بنطال كهذا لا توازيها جريمة أخرى. سأرتدي هذا البنطال يوماً في بيروت، ربما أصادف ذاك الرجل هناك، يبحث مثلي عن شيء من الفرح والتخفف.
لو سئلنا بماذا تحلم سيدتان تسكنان في الشام أو بيروت؟ سنجيب، بقليل من الحرية والطمأنينة وبكميات أكبر من البنزين ومن الرجال الجيدين، لكننا ندرك أن الحرب والخيبات أخذت رجالاً كثيرين، وأحرقت وقود الحياة في هذه البقع. حتى أصبح احتساء فنجان قهوة مع أحدهم، من دون خيبات وملل وأخبار سيئة، مشقة. الرصاص في كلّ مكان، الكثير منه صامت، حتى صار الرجال يعتقدون قصائدنا شيئاً من القصف، حتى حين تكون في معرض الغزل. الحب هنا، بات يشبه الحرب تماماً. والنساء في عيون الناجين من القصف، معارك أخرى، يحاولون النجاة منها، أو الانتصار عليها، أو إنهاءها بأسرع وقت.
تمر البيوت التي نحاول بناءها في بالنا، نطفئ العالم قليلاً، نشعل سيجارة ونمضي. أي أطفال سوف نأتي بهم إلى هنا؟ ثم أي طفلات؟ أفكر فيهنّ أكثر، تلك الأجساد الضئيلة التي ستواجه ما واجهناه، هل سيخفن للأسباب ذاتها، ويترددن كما فعلنا؟ هل سيكون على أطفالنا خوض أحلامنا الساذجة في محاولة لاقتناص الحياة؟ ألن يستطيعوا بناء أحلام أخرى، أوسع قليلاً من ثقوبنا؟ إنها مسألة صعبة أن يملك المرء أرحاماً تبحث عن أطفالها، وسط هذا كله، أن تصارعي ثيراناً جائعة مثلاً، لأنك ارتديت فستاناً قصيراً، أو لأنك عشتِ كما تشائين، لا كما تشاء الكتب والشريعة، أن تعبري الشارع وترافقك نظرات متراكمة ومتراكمة من الازدراء والرفض، نعم إنه الرفض، هذا ما نشعر به وما لا نريد لأطفال في أحلامنا أن يشعروا به.
أجرينا صباح اليوم جولة “شوبينغ” افتراضية، تحدّثنا عن سوق الحميدية، وكدنا نتوجّه إلى هناك، لولا البنزين والحدود المقفلة.
“علينا أن نسطو على رجال أغنياء” هكذا قلنا، ولم نكن نقصد ذلك حقاً، لكنّ المأساة تتحوّل آجلاً إلى ملهاة، عند السائرين في الطريق إلى عدم فقدان ما تبقى من صواب. فكرنا في أن تأسيس عصابة قد يكون فكرة جيدة، للسطو على هؤلاء الذين يحتكرون كل شيء، يقتلون كل شيء. وبما أن البلاد تعج بعصابات تمتهن الخطف والسرقة والقتل والمخدرات، قلنا لا ضير بأن تؤسس صبيتان عصابة خفيفة الظل، تحلم بوطن لا خوف فيه، بقتل أقل وحب أكثر وحرية. قلنا إن لا داعي لنشعر بالذنب، فالعالم يعج بالرجال، تفوح منه رائحة الذكورة. كنا نظنّ أنها الرائحة التي تحمي العالم أيام الحرب والجوع، لكننا كنا مخطئتين، فحاكمو العالم ومعظمهم رجال دمروه وأخذوا كل شيء، حتى الطمأنينة التي يحتاجها المرء لينام عند المساء. أتخيل أحياناً الخلاص على شكل عالم تحكمه نساءٌ يشبهننا، يحببن الطهو والقراءة وتربية النباتات. يخيفني تخيل العالم يستمر في مراكمة الموت المرة تلو الأخرى، يجب أن نعلّم الرجال كيف يسيطرون على غضبهم بالحب والرقص والدفاع عن الحياة. لمَ ترمين كل شيء على الرجال؟ لا مهرب من ذلك.
لكن العالم ما عاد يصدّق الأفعال الصغيرة، فما تربية نبتة مقابل قصف مدينة! وماذا يعني الطهو مقابل التخطيط لحرب جديدة؟ بات العالم متطلباً ولا ترضيه مخططاتنا الصغيرة والحميمية، تطيب له مشاهدة روتينه اليومي الخطير. لكننا لا نخاف من الخطر، ما عاد يهمنا، أو أنها العادة، ننشغل الآن بالخوف من العجز عن عيش حياة بسيطة.
منذ مدة نفكّر بالكتابة المشتركة، عن رغبتنا في أن نكون نساء عاديات، وننزل إلى السوق ونتجوّل مثلهنّ، بلا أي همّ. لكنّه حلم بعيد المنال حين تعيش الواحدة في أماكن تضيق بالجميع، كهذه التي نركن فيها أجسادنا وقلوبنا وأيضاً رغباتنا. كل شيء مركون هنا، بانتظار معجزات. حلم أن تهتمّ امرأة ما في اقتناء رواية عن بلاد العجائب، وتقرأها بسلام من دون أن يعتري وجهها ذاك القلق الحاد الذي لن تفهمه أي امرأة تعيش في مكان بعيد من هنا، لا قصف فيه ولا انفجارات ولا عمليات خطف ودهم واعتقال مجاني.
حَسبُنا أن التدريب الطويل على القسوة جعلنا أكثر رأفة بأنفسنا، أكثر تسامحاً وحنواً. ذات يوم أدركنا أننا تأخرنا عن تجارب كثيرة، كانت تشغلنا حروب لا نريدها، كانتظار الكهرباء الطويل والرعب والقصف والانهيار الاقتصادي وانقطاع الوقود والتجارب العاطفية الفاشلة، وحين أدركنا كم من الوقت والطاقة منحنا للاشيء، للفراغ والمعارك اليومية، كان ميزان خساراتنا كبيراً مقابل أحلام العشرينات العظيمة. لكننا سامحنا أنفسنا على عالم قاسٍ ورجالٍ غائبين ووطن يتلذذ في حرماننا، وانطلقنا في الثلاثين، لا نريد سوى بعض الحياة واصطياد الكواكب، كما قال نزار ذات مرة.
ماذا تريد امرأتان مثلنا لو مُنِحَتا قيادة بلدانهما ليوم واحد؟ ربما ستطلقان الموسيقى في الحافلات والمنازل والسيارات والمحال التجارية، تسمحان بالرقص والقبل في الشوارع وساحات الكبت المشينة، تمنعان المظاهر العسكرية تماماً، لأربعٍ وعشرين ساعة كاملة ثم إلى الأبد. توزعان الطعام على المشردين، تملآن سيارات المساكين بالوقود، بعد سحبه من زلاعيم محتكريه، تتمشيان في الحميدية وتقطعان الطريق نحو شارع الحمراء وسط بيروت.
قد يبدو كل ما كُتب أعلاه، أحلاماً ساذجة طفولية… لكنها مهما كان بعض أحلامنا، وها قد كتبناه، كتبناه ونحن نشعر بالتردد من الحديث عن “الشوبينغ” والرصاص في الجملة ذاتها، عن الحرية والبنطال الواسع في عبارة احتجاجية واحدة، فعلنا ذلك وكلّ منا في مدينة، إحدانا تدخن النرجيلة والأخرى تطفئ السيجارة العاشرة، إلى أن تنتهي الحروب، وتفتح الحدود ويصبح البنزين متوفّراً، وكذلك الحق في الحياة، فتعود الطريق من الشام إلى بيروت ممكنة.
نقلا عن وكالة درج