لم تكن لدي أية فكرة عمّا سألاقيه في طريقي إلى حلب، كانت لدي أحلام وطموحات بأنني سأكمل دراستي الجامعية هناك، بعد تحرير مدينة إدلب توقفت جامعاتها بالمدينة وكنا – الطلاب- في حالة تخبط لا نعلم مصير الكليات والجامعات بالمدينة بعد التحرير، تساؤلات كثيرة كنا نسألها لبعضنا عمّا إذا كان النظام سيسمح بعودة التعليم الى المدينة تحت إشرافه رغم خروجها عن سيطرته أم نترك في فراغ فكري وانفصال تعليمي ندور في تخبطات الجهل والتخلف.
وهذا ما حدث فعلا – وككل المناطق المحررة – حرمت المحافظة من كل سبل الحياة، لم تتوقف الجامعات والمدارس فقط بل قطع عنها الماء والكهرباء وإن كانتا بالأصل نادرا ما نراهما، ما زلت أذكر في الأسابيع الأخيرة ما قبل التحرير كيف كان الأطفال يتسابقون لتعبئة المياه من المناهل، ولكن بعد التحرير افتقدتْهم تلك المناهل فكثير منهم تشرد وكثير آخر قتل بصاروخ أو برميل.
لفت انتباهي في إحدى المرات طفل صغير يجر أمامه بصعوبة بالغة عربة مليئة “بالجالونات” ، لكنه عند سماعه أزيز الطائرات سارع للاختباء وراء أحد الجدران لم يترك أبداً “جالوناته” بل أسرع ليضعها أمامه، وتقوقع على نفسه.. لقد اختبأ وراء حائط المدرسة، مدرسته التي كان من المفترض أن يكون داخلها.
لم أعلم ما أفعل ووقفت مذهولة، أمام غرابة الموقف لم أعلم لمَ صاح الطفل” وينك يا مدرستي “لكن كلماته أثرت فيَّ كثيرا فكأنه شعر بوجود المدرسة في نفسه فإن لم تعد تقوم بمهمتها التعليمية فلا بد أن تقوم بمهمة إنسانية – حماية طفل من شظايا الحقد والتدمير.. كانت المدارس في ذاك الحين مجرد حلم من المستحيل أن تعود، فالطائرات الحربية لم تكن تغادر أجواء المدينة، وكانوا قلة ممن بقوا في إدلب فالجميع نازح خارجها.
قررت الذهاب الى حلب بعد هذا الموقف، أريد أن أكمل دراستي الجامعية التي توقفت بعد التحرير، لم يكن أحد يجرؤ على الخروج في ذاك الحين خوفا من بطش النظام، كان تحرير إدلب بمثابة عاصفة، وقد جن جنونه إثرها وأراد أن يجعل من المدينة ناراً على رماد.
اتخذتُ القرار وخرجت الى حلب، صعدت إلى الحافلة الساعة الرابعة صباحا، انطلقت حاملة أحلامي وأحلام الطفل الصغير.. لم يضعف بريق تلك الصورة بعدُ، كان الطريق في بدايته جميلا…هواء منعش وأجواء صيفية رائعة، جلست عند باب الحافلة لاستنشق هواء الصباح الباكر بعيداً عن ضجيج الركاب في الخلف، وما علمت ضريبة جلوسي هذا إلا عند مروري بأول حاجز لقوات لنظام.
فتاة محجبة متلحفة بالسواد، قادمة من مدينة إدلب المحررة.. جرم يكفيني لأنزل من الحاجز وأُسأل مرارا وتكرارا عن صلتي بالإرهابيين وكيف خرجت من المدينة، كانت هويتي “تتفيّش” عند كل حاجز وفي كل مرة لطف الأقدار تنجيني، رغم تغييري لمكان جلوسي وأخذي مقعدا آخَر في مؤخرة الحافلة إلا أن سوء الطالع كان يلاحقني.. عند وصولي إلى حاجز “الراموسية”.. على مداخل حلب.
قرر ضباط الحاجز عدم دخول الباص الى المدينة لتهمة القدوم من محافظة إدلب المدينة المحررة…” يا لها من تهمة”، استغرق الطريق معنا لنصل مداخل حلب عشر ساعات ولا مجال للعودة، نزل الجميع من الحافلة عادو أدراجهم سيرا على الأقدام وبعد مئات المتار أخذ الركاب كل على حدة يستقل حافلة تحاول دخول مدينة حلب علّه ينجو من تهمة صلته بمدينة محررة ونهاية الجميع استقلوا سيارات ودخلوا المدينة.
بقيت أنا وعجوز في حيرة من أمرنا لم نستطع أن نجد سيارة أجرة تدخلنا المدينة، مشينا قليلاً ولم ندرِ أين نحن وإلي من نلجأ.. إلى أن تلطفت بنا الأقدار، شاب من مدينة حلب – أراد مساعدتنا رغم خوفه من العواقب ـ وبمروءة منه أقلنا الى داخل حلب متجاوزا الحاجز.. وبعد معاناة كانت حلب الشهباء ترحب بكم، اثنتي عشر ساعة للتنقل بين منطقتين تبعدان عن بعضهما خمسين كم فقط.
هكذا سردت لنا سيدرة قصة دخولها الى حلب مؤكدة أنها تجربة لن تعاود تكرارها خوفا من تبعات أخرى كادت تحصل في حال عودتها مرة أخرى الى حلب.. تركت الجامعة ولكنها تركت قلبها وبسمات وآمالا وأشياء أخرى.
المركز الصحفي السوري– آية رضوان