من قال أن الأزمة السورية معقدة للغاية كان محقاً في طرحه ولم يخطئ التشخيص, فكل ما يجري على الساحة السورية بشقيها السياسي والعسكري منذ اندلاع أحداث الثورة السورية في منتصف آذار من العام 2011م حتى الآن هو غير مفهوم, وتتعدد التحليلات والتعليلات التي تحاول تفسيره, تارة بمحاولة ربط الخيوط بمخطط كبير لتنفيذ أجندات الدول اللاعبة على شكل مشاريع دول, وتارة بإظهار الصورة بشكلها المرحلي والآني وفق التغيرات التي تعصف بالوضع العالمي بمعنى آخر “مخطط ثابت في الصورة العامة ومتغير في التفاصيل”..
الغير مفهوم:
من أبرز الأحداث السياسية والعسكرية التي تجري على الأرض السورية وتحير العديد من المحللين هو التناقض الكبير في إقامة تحالفات ثابتة ومتغيرة بين حكومات وأحزاب وتيارات مع بعضها البعض, فروسيا تسير مع إيران وحزب الله في خندق واحد, وهو الاستمرار في دعم النظام السوري ضد الثوار حتى النهاية التي لا تبدو قريبة في المدى المنظور, وتتهم هذه الأطراف الثلاثة الولايات المتحدة الأمريكية وحلفائها من الدول العربية بالسعي الحثيث والمتواصل لدعم “المجموعات الإرهابية” من أجل تقسيم البلاد إلى أقاليم وكانتونات, وفي نفس الوقت تتهم الولايات المتحدة الأمريكية كل من روسيا وإيران بالسعي من أجل احتلال مناطق محددة من سورية, أو ما تم تسميته مؤخراً بسورية المفيدة على أسس المصالح الدينية والاقتصادية.
دولة الكيان الصهيوني المحتل “إسرائيل” تراقب كل هذه الأحداث بصمت, وتتدخل عند الضرورة لتقصف مواقع تابعة لحزب الله اللبناني في محيط دمشق بين الحين والآخر, وروسيا الدولة الصديقة لإسرائيل والنظام السوري تغض الطرف, وتكتفي إيران بنقل الخبر في وسائل الإعلام, رغم الحرب الوهمية الكلامية المستعرة صباح مساء بين النظام والسوري وإيران من جهة, ودولة الكيان الصهيوني المحتل من جهة أخرى, مازالت الصحف الإسرائيلية تنقل تصريحات لمسؤولين بارزين في الحكومة والموساد والكنيست مفادها أن إسرائيل تفضل بقاء “الأسد” في السلطة وتخشى رحيله لأنها ستصبح على حدود فراغ سياسي وعسكري سيكون له تداعيات خطيرة على مستقبل هذا الكيان في السنوات القادمة.
حتى ضمن المعسكر الواحد نلمس العديد من التناقضات التي لا تعبر عن النوايا المعلنة للعديد من الأطراف, فكثير من الدول الداعمة لثورة الشعب السوري, والتي نجحت في خلق أجنحة عسكرية تأتمر بأمرها داخل صفوف قوات المعارضة, ترسم لهذه الجماعات المرتبطة بها سياسياً ومادياً خطوطا حمراء وملونة بات من الواضح أنها تقيد العمل العسكري للمعارضة وتزيد من انقسامها وتشتتها على الأرض, بل كانت سبباً في انكسارها وانحسارها عن العديد من المناطق الجغرافية التي كانت تحت سلطتها لصالح قوات النظام والمليشيات الطائفية التي تساندها وتدعمها طهران, وهذا ما جرى في حلب الشرقية بالضبط, والموضوع لم يعد خافياً على أحد, والمستفيد الوحيد من كل ذلك هو النظام السوري الذي يقترب اليوم من إنهاء تواجد المعارضة المسلحة في دمشق وريفها بشكل كامل بنفس الطريقة التي تمت في حلب “تفاهمات مأجورة”..
من المستفيد من تناقضات الصراع؟
سؤال طالما تداوله السوريون الذين انتفضوا ضد نظام الاستبداد في وقت متأخر, من المستفيد من تناقضات الصراع في سورية التي تبدي مصالح الجميع على حساب مصلحة السوريين الذين باتوا يدفعون الثمن الباهظ من دمائهم, ومن هي الجهة التي تسعى إلى إطالة أمد الصراع في سورية؟
في خضم هذه الأحداث المتناقضة يبرز عجز المجتمع الدولي عن إيجاد حل حقيقي يستطيع حقن الدماء النازفة في سورية, أو بالأحرى عدم اكتراث الغرب تحديداً للاستنزاف المستمر للطاقة البشرية السورية طالما أن مصالحهم محفوظة وبعيدة عن أي تهديد حقيقي, فضلاً عن إخفاء نوايا غير مطئمنة بتقسيم البلاد في نهاية المطاف رغم أن الوقائع على الأرض تشير إلى رغبة روسيا وإيران والنظام باستمرار انتهاج سياسة الحسم العسكري على الأرض طالما أن الفرصة سانحة أمامهم لاستعادة كل شبر من التراب فقدوه بالقوة سابقاً, فجميع الاعتداءات التي قامت بها إسرائيل على الأراضي السورية مؤخراً يقابلها تصعيد حقيقي من قبل الروس وقوات النظام ضد المدنيين السوريين, ويبدو أن هذا الأمر يعجب الولايات المتحدة والأمريكية وحليفتها إسرائيل التي خبرت خفايا الصراع في سورية جيداً, لذلك يتم التركيز على حماية المصالح الأمريكية في سورية في الجنوب بالتنسيق مع الأردن, وفي الشمال والشرق بالتنسيق مع الأكراد والأتراك وحكومة بغداد المدعومة من إيران كتكريس لتشابك الخيوط التي تربط بين الملفات المتناقضة, وما تلك الدعوات التي تصدر من موسكو بإقامة منصات مركبة ومشبوهة كمنصتي القاهرة وأستانة وغيرهما, سوى إجراءات شكلية, ويبقى التنسيق الحقيقي مع الولايات المتحدة على طريق إجراء تفاهم شامل يوزع مناطق النفوذ في المستقبل, حتى وإن تم تثبيت النظام السوري الذي لا مشكلة لديه طالما أنه حافظ على وجوده, ولمن مازال يسأل عن كل هذه التناقضات عليه أن يحرف النظر باتجاه دولة الكيان الصهيوني ويدرس مواقفها جيداً ليدرك مفهوم سياسة “العصا والجزرة”, التي أجبرت كل الأطراف اللاعبة في الملف السوري على اتباعها على حساب نزيف الدم السوري..
المركز الصحفي السوري – حازم الحلبي.