منذ ظهور النظام الإقليمي العربي بشكله المعروف، بعد الحرب العالمية الثانية، توزّعت دول المشرق العربي على فئتين: دول كبيرة الحجم والموارد نسبياً، طامحة إلى لعب دور إقليمي وانتزاع زعامة العالم العربي (لاعبون)، ودول أصغر حجماً وأقل موارد، تحولت تلقائياً إلى ساحات صراعٍ بين دول الفئة الأولى. وكان السبب الرئيس في تحول الفئة الثانية إلى ساحات صراعٍ بين أقطاب الفئة الأولى هو انقساماتها الداخلية (السياسية والحزبية والمناطقية والطائفية، وحتى العائلية)، فضلاً، بالطبع، عن اختلال التوازن في العلاقة بين الدولة والمجتمع، وغياب سلطة مركزية قوية، تحظى بشرعية تمثيل الإرادة الشعبية في التعامل الكلي والحصري والمطلق مع الخارج، والافتقار إلى زعامةٍ وطنيةٍ جامعةٍ قادرةٍ على ضبط سلوك الفرقاء المحليين الذين تحولت مرجعيتهم، بسبب ذلك، إلى الخارج. وأصبح، بناءً عليه، لكل طرف محلي ظهير إقليمي ينتصر به على أفرقائه من أبناء بلده. في ظروف مغايرة طبعاً، تظل الدول الصغيرة تنحو تلقائياً إلى اختيار ظهير إقليمي، أو دولي، تحتمي به، إنما بوجود سلطةٍ مركزيةٍ قوية فيها، تحتكر قرار التواصل مع العالم الخارجي، وإقامة العلاقات معه، واختيار الحليف الذي يؤمن لها الحماية، وإن كان الثمن، في أغلب الأحيان، نشوء علاقة تبعيةٍ شبه مطلقة معه (علاقة البحرين بالسعودية مثلاً).
خلال الحرب الباردة العربية التي واكبت الحرب الباردة العالمية (1946-1989)، وكانت صدىً لها، ظهرت ثلاث ساحات رئيسة تنافس عليها عدة لاعبين إقليميين، كانوا جميعاً عرباً في المراحل الأولى من الصراع، قبل أن تدخل المعترك أطراف غير عربية (إيران – إسرائيل – تركيا). أول هذه الساحات وأهمها كانت سورية التي تنافس عليها، خلال الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي، كل من مصر والعراق-الأردن (أي الهاشميون) والسعودية. كانت الساحة الثانية اليمن التي خاض فيها السعوديون والمصريون حرب وكالةٍ دامية بين 1962-1967، وكان لها أكبر التداعيات على المنطقة (هزيمة 1967 مع إسرائيل). الساحة الثالثة، والأكثر شهرةً ربما، لم تكن سوى لبنان الصغير الذي تحوّل ساحة صراع مديد بين قوىً عديدة منها، سورية ومصر في السبعينيات، ثم سورية والعراق في الثمانينيات، ثم سورية والسعودية في التسعينيات، لتغدو إيران وإسرائيل أهم اللاعبين الإقليميين فيه اليوم.
واحدةٌ من الدول التي تستحق الدراسة، لأنها لعبت الدورين معاً (اللاعب والملعب) و”ناست” بينهما بصورة متطرّفة في العقود الخمس الماضية، كانت سورية، التي اقترن باسمها، في طور الملعب، مصطلح الحرب الباردة العربية الذي استخدمه المستشرق والرئيس الأسبق للجامعة الأميركية في بيروت، مالكوم كير، في كتابه الذي نشره مطلع السبعينيات وحمل الاسم نفسه. أما عندما تحولت سورية إلى لاعب، أي عندما انتقل الوضع من حالة الصراع عليها إلى حالة الصراع معها في العقود التالية، فقد انتقل التنافس من طوره البارد إلى طوره الساخن، لا بل الدموي، وأخذ، في الغالب، شكل حرب الوكالة. لذلك شاع، في الثمانينيات، أن سورية “حاربت إسرائيل بالدم اللبناني، وحاربت العراق بالدم الإيراني، وحاربت حزب الله بدم حركة أمل، وحاربت ياسر عرفات بدم المنشقين عن حركة فتح”.
تعود سورية اليوم ساحة صراع (ملعب)، مع فروقٍ جوهرية، منها أنه، في الوقت الذي كانت فيه وسائل الصراع الأول على سورية سياسيةً بالدرجة الأولى، ونخبويةً تتمثل في صراعات أجنحةٍ داخل أجهزة السلطة والحكم (الجيش والأمن خصوصاً)، بحيث إن عامة الناس لم تكن تشعر بما يجري، إلا من خلال “البلاغ رقم واحد”، يجري الصراع الحالي بمستوياتٍ غير مسبوقة من العنف الشامل، والخالي من أي هدف سياسي، خلا كسر إرادة الناس، وحكمهم ولو كانوا ميتين. الفرق الجوهري الثاني أن الصراع الذي يجري اليوم يجري حصرياً بالدم السوري، ويسدّد ثمنه السوريون، ما يفسر رغبة الأفرقاء الإقليميين والدوليين في استمرار القتال، حتى آخر قطرة دم سورية. والفرق الثالث أنه، وبخلاف الحال في الخمسينيات والستينيات، عندما كانت الدول العربية الكبرى هي الأطراف الرئيسة في الصراع على سورية، فإن الصراع الذي يجري اليوم هو تركي – إيراني – روسي، يتولى فيه “سوريو المرشد”، و”سوريو القيصر”، حرفياً، إحراق حلب، وتدميرها فوق رؤوس أهلها.
مروان قبلان_العربي الجديد