أثار انتخاب دونالد ترامب رئيساً للولايات المتحدة الأميركية المخاوف والتساؤلات بخصوص السياسة التي سينتهجها تجاه الصراع السوري، في موقفه من الثورة السورية، أو من النظام، بالإضافة إلى موقفه من الأطراف الدولية والإقليمية المتصارعة إلى جانب المعارضة أو إلى جانب النظام، لا سيما إيران وروسيا.
تشير كل المؤشرات إلى أن الرئيس المنتخب لن يلجأ إلى إحداث تغييراتٍ على الاستراتيجية الأميركية الذي اتبعها سلفه، والقائمة على عدم التدخل أو التورّط، وترك الأطراف تتصارع فيما بينها، لأن هذه السياسة تتناسب مع أهوائه، ومع تصريحاته المعلنة، ومنها تأكيده على أولوية محاربة الإرهاب.
في هذا السياق، يمكن فهم إعلان وزارة الخارجية الأميركية، بعد ساعات من زيارة ترامب البيت الأبيض ولقائه الرئيس باراك أوباما، موقفها الصريح من جبهة فتح الشام (جبهة النصرة سابقاً)، بإضافتها إلى قائمة الإرهاب، معتبرة أن تغيير الاسم لا ينفي عنها صفة الإرهاب فعلياً، ولا يحجب حقيقة ارتباطها بتنظيم القاعدة. وبحسب بيان الوزارة، فإنه “على الرغم من محاولات التفريق بينها (فتح الشام) وجبهة النصرة عن طريق إنتاج شعار وراية جديدين، إلا أن مبادئ الأولى ظلت مشابهةً للتي لدى تنظيم القاعدة، والجماعة مستمرة في تنفيذ الأعمال
الإرهابية تحت الاسم الجديد. اسم الجماعة مهما تغير سيظل تابعاً للقاعدة في سورية”. إضافة إلى ذلك، ظهرت تسريبات صحافية (في “واشنطن بوست” مثلا) تفيد بأن الرئيس أوباما أمر وزارة الدفاع (البنتاغون) بالعثور على قادة “النصرة” وقتلهم في سورية. وتضمن القرار نشر مزيد من الطائرات من دون طيار (الدرون) وتعزيز القدرات الاستخباراتية، واعتبرت الصحيفة أن هذا المنحى ضد “النصرة” يُرجّح أن يزداد مع تولّي ترامب الرئاسة مطلع السنة المقبلة.
ولعلّ هذا الموقف الجديد ـ القديم يؤكد أن الاستراتيجية الدولية، وخصوصاً الأميركية، بشأن الصراع في سورية، ما زالت تنحصر في أمرين: أولهما، إعطاء الأولوية للحرب ضد الإرهاب، ويأتي ضمن ذلك السعي إلى فصل قوات “المعارضة المعتدلة” عن جبهة فتح الشام، وهذا يعني العودة إلى تفاصيل الاتفاق الروسي ـ الأميركي (سبتمبر/ أيلول الماضي). أما ثانيهما، فيتعلق بتعويم مصير بشار الأسد الذي بقي نحو خمس سنوات ونصف متأرجحاً بين التصريح أولاً عن فقدانه الشرعية ثم أولوية خروجه من المشهد السوري، وصولاً إلى التسويات الغامضة التي يمكن تفسيرها بأكثر من معنى في بيان جنيف 1، ثم لاحقاً بيان فيينا. وبعد ذلك ما تسّرب عن لوزان1، مع الحديث عن استفتاء شعبي يحدّد مصيره. وللتذكير، فإن لوزان هي المدينة التي يتفاءل بها وزير الخارجية الأميركي، جون كيري، بسبب نجاحاته، على ما يبدو، بإنجاز الاتفاق النووي مع إيران فيها، وهو الانجاز الذي وعد ترامب المرشح بإلغائه في حال نجاحه، ولا نعرف إذا ما كان ترامب الرئيس المنتخب سينفذ وعده أم لا.
بديهي أن نتائج انتخابات الرئاسة الأميركية التي أوصلت ترامب إلى سدّة الرئاسة فتحت المجال واسعاً لتوقعاتٍ متشائمة، بما يتعلق بملف الصراع في سورية، لأسبابٍ كثيرة، لا سيما منها تقارب وجهة نظر الرئيس المنتخب مع روسيا في ما يتعلق بأولوية الحرب على الإرهاب، ولا مبالاته بما يحصل في سورية.
ومع أنه من المفيد التذكير بأن هذه الأولوية كانت، وما زالت، تحتل الحيز الأكبر في استراتيجية إدارة أوباما، إلا أنه يجدر لفت الانتباه إلى فارقٍ مهم جدا، يتعلق بأن إدارة أوباما اعتبرت روسيا شريكاً لها في هذه الحرب، بدليل الاتفاق الروسي ـ الأميركي بشأن حلب، بينما قد يختلف الأمر مع إدارة ترامب عن ذلك على الأرجح. ولعل هذا ما يمكن ملاحظته في خطاب النصر الذي ألقاه الرئيس المنتخب، وأكد فيه أن الولايات المتحدة تأتي أولاً، وأنه معني باستعادة عظمة أميركا، الأمر الذي يستنتج منه أن فكرة الشراكة بالمفهوم الأوبامي ستتراجع، لتصبح مجرد إيجاد أرضية مشتركة مع الدول الأخرى. أي أن “أميركا أولاً”، الترامبية، ربما تعني تولي الولايات المتحدة زمام القيادة والمبادرة، وإظهار قوتها وعظمتها وقيادتها للعالم، وليس شراكتها معه، بل وتخليها عن إعطاء وكالاتٍ للآخرين، ومنهم روسيا. وربما الأهم من ذلك لتعود أميركا العظيمة هو عودتها للدفاع عن حقوق الإنسان، ومبدأ الحريات والتزامها بدورها دولة عظمى.
مع ذلك، ربما ستحتاج الولايات المتحدة، في ظل رئاسة ترامب، إلى فترة فاصلة عن السنوات الثماني الماضية التي حاول فيها أوباما الانسحاب من منطقة الشرق الأوسط، وتوكيل إيران تارة وروسيا تارة أخرى، للقيام بمهمة لملمة نتائج سياسات بوش الابن، ولاحقاً أوباما، في فترة رئاسته الأولى، تلك السياسات التي كان من نتائجها ترك المنطقة لمصيرها واضطراباتها وانقساماتها الحادة. وكان غزو الأول العراق أدى إلى تفتيت هذا البلد، وتدمير مؤسساته، وجعله مطيةً للنفوذ الإيراني، في حين أن الثاني تعامل مع تداعيات “الربيع العربي” الذي أثمر في تونس، وتعثر في مصر، وأحدث حالة انفلات أمني في ليبيا، وحرباً طويلة الأمد ومتعددة الأطراف في سورية واليمن، بطريقة انتهازية ووظيفية، بعيداً عمّا تعتبره الولايات المتحدة قيمها الأساسية.
اللافت في المشهد، أو في أولويات الإدارة الأميركية في سورية، بعد أن أصبح ترامب رئيساً، ترحيب النظام السوري به، بسبب تقاربه مع الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، الحليف المغامر، وتعامل المعارضة بإيجابية مع وصوله، على الرغم من أجنداته المعلنة في أثناء حملته الانتخابية، وعلى الرغم من التشكّك بموقفه من الثورة المتساوق مع روسيا، علما أن ترامب المقرّب من روسيا هو نفسه ترامب المرحّب به تركياً.
مما يزيد في توضيح سيناريو السياسة الأميركية في المنطقة أنه سيبقى على النهج السابق نفسه في الملف السوري، أي الحفاظ على ديمومة الصراع، وجعل سورية مكاناً لاستنزاف الدول الأخرى، وأولوية الحرب على الإرهاب، وفصل جبهة النصرة عن المعارضة، وعدم تمكين أي طرفٍ من تحقيق الغلبة على الطرف الآخر، إلى حين فرض الحل السياسي الذي تعتقد الولايات المتحدة أنه آن أوان فرضه على الجميع، بمن فيهم روسيا. لذا، كان هناك ما يمكن لموسكو أن تقدمه لواشنطن، فهو القبول بوجهة النظر “الترامبية” الآن التي تريد لأميركا “العظيمة” أن تعود لتصدّر المشهد، وعلى كل الشركاء الآخرين في المشهد السياسي والعسكري التراجع إلى الخلف، ولعل ميدان الصراع في حلب المختبر لذلك كله.
يطرح هذا الواقع على المعارضة السورية (السياسية والعسكرية والمدنية) تكييف نفسها للتعامل مع المستجدات في المعطيات المحيطة بالوضع السوري، وفي المقدمة منه تغيير الإدارة الأميركية. كما يطرح على النظام السوري إنهاء حلمه المشترك مع إيران، وبرعاية روسية، بفرض الحل العسكري الذي سيصيب عظمة الولايات المتحدة بمقتل، حتى ولو كان ذلك بالتوافق مع شريكٍ روسي محتمل للعمل مستقبلاً.
العربي الجديد – سميرة المسالمة