سورية، كغيرها من دول سايكس – بيكو، دولة صُنعت وفُصلت على طاولات الاستعمار. وهي، وفق العقيدة السائدة لحزب البعث الذي حُكمت باسمه لنصف قرن وخُرّبت باسمه تحت حكم آل الأسد، الأب والابن، دولة – وطن واهية بحكم كونها مرحلة وسيطة في الطريق إلى إعادة توحيد أمة أكبر منها تنتمي إليها هي الأمة العربية. لكن سورية أيضاً، كيان سياسي وثقافي له جذور ضاربة عميقاً في التاريخ وفي الحضارة من آرام إلى سلوقيافسورية فالشام ثم عودة إلى سورية في العصر الحديث.
سورية الجديدة هذه في تجلّيها المعاصر بعد سايكس – بيكو، قد طوّرت هوية وطنية تشكلت بحكم تعايش مختلف مكوناتها، بل تماهيها مع بعضها البعض خلال قرن كامل من العيش المشترك والمصير المشترك والمصالح المشتركة منذ بداية الاستعمار الفرنسي قبل نحو قرن من الزمن وحتى اليوم. هذه الهوية السورية الوطنية الجديدة التي لا تعدم امتدادات تاريخية حقيقية، وجدت لنفسها منافذ كثيرة للتعبير على مختلف المستويات الاجتماعية، من لغة الشارع والعواطف الشعبية والأمثال والعادات والأذواق إلى الإرهاصات الثقافية من أدب وفن ومسرح وكتابة. بل إن نظام الأسد الحاكم نفسه، وعلى رغم عقيدته العروبية المعلنة التي استهانت بالهوية الوطنية لعقود، عاد لاستثارة نعرة هوية وطنية سورية عام ٢٠٠٥ بعد انكفائه السريع عن محميته لبنان، إثر اغتيال رفيق الحريري، اعترافاً منه برسوخها في الوعي الجمعي لعموم السوريين.
وقد بدأت إرهاصات هذه الهوية الوطنية السورية بالتبلور سياسياً في السنوات الخمس عشرة الماضية، إلى أن جاء قمع الأسد نفسه العنيف للثورة ضد طغيانه واستبداده عام ٢٠١١، لكي يفتق الكثير من لحمة السوريين ويعيد قسماً كبيراً منهم إلى مستويات بدائية من الانتماء.
سورية هذه تتمزق في أتون حربها “الأهلية” منذ نحو الست سنوات. أجزاء واسعة منها دمرها القتال العبثي الذي بدأه النظام المجرم، وأكملته الفصائل المقاتلة المعارضة ذات الأجندات الإسلامية. أهالي مناطقها الثائرة قُتلوا، شُوّهوا، حُوصروا، هُجّروا، وتشردوا. وأهل مناطقها الخاضعة للنظام الأسدي أو الخلافة الداعشية قُمعوا ودُجنوا أو استُنفروا للدفاع عن عقائد أوهمهم أمراء الحرب من الطرفين أنها تمثلهم وتحميهم وماتوا دونها بأعداد كبيرة.
صحيح أن الخراب في المناطق الثائرة هائل وشنيع لا يدانيه البتة الخراب في المناطق المدجنة التي لم تلق عليها القنابل أو البراميل المتفجرة. لكن الدمار الأخلاقي والنفسي والانحلال السياسي والاجتماعي متماثلان في كل المناطق. فسورية بثوارها ونظامها قد ارتدت إلى تشكيلات سياسية مفتتة، لا هي بالدولة ولا بالمحمية ولا حتى بالمتجانسة.
ما هي إلا إمارات حرب يستغلها حكامها ويؤججون فيها مشاعر غريزية تحتمي بالعرق والمذهب والقبيلة وما إليها من تشكيلات ما قبل الدولة – الوطن. ينطبق هذا على مناطق النظام، بغض النظر عن حفاظه على بعض مظاهر الدولة الباهتة، كما ينطبق على المناطق المتنازع عليها ما بين تشكيلات مقاتلة تنتمي الى كل ألوان طيف الانتماء من الإسلامي العالمي والجهادي والتكفيري والموصوف بالاعتدال، إلى الكردي العنصري والعربي القبلي والتركماني المحتمي بالجارة غير الحنون تركيا، ما حوّل الخارطة السورية إلى خليط متنافر من التشكيلات والألوان المتحولة باستمرار مع تغير معادلات القوة ومناطق السيطرة.
سورية أصبحت سوريات عدة، بعضها لا يحتفظ من الاسم إلا بغطاء تشريع سلطته، وبعضها الآخر يفتّش عن امتدادات عرقية أو مذهبية خارج الحدود السورية ليلضم معها، وبعضها ما زال يحلم بتلك الدولة العولمية التي حصلت لوهلة وجيزة قبل أكثر من ألف سنة. وهي كلها كوابيس بالنسبة الى البلد ومواطنيه. في هذه السوريات العديدة، بدأت هويات جديدة قاتلة ومقاتلة تترسخ وتتوسع وتأخذ أشكالاً غريبة.
وهي تهدد بالتحلل أكثر وأكثر بحيث تصبح سورية كوطن وكدولة ذكرى قديمة لا مكان لها في أي تخيل عن المستقبل. يحصل هذا كله ضمن دوامة من العنف والتدمير كريهة وعدمية لا تتوقف حتى عندما تقرر القوتان العظميان اللتان تلعبان في سورية لعبة عض أصابع (أصابع السوريين طبعاً) التوقّف لأجل هدنة قصيرة. فالحروب الصغيرة التي تناسلت من العنف الأول للنظام أصبحت نسيج وحدها، تسير من ذاتها وتتغذى من أشلاء ضحاياها عندما تعدم الدعم الخارجي الذي أتى من كل حدب وصوب. والعالم كله ينظر بلا مبالاة وببلاهة.
لا مبالاة العالم هذه مُنتظرة، وهي ردة فعل راسخة في السياسة العالمية. الكل يتحدث أخلاقياً عن المآسي التي يتسبب بها البشر عندما تحدث أينما كان مكان حدوثها، وعن ضرورة إيقاف حمام الدم وردع المجرمين وإحقاق الحق ودعم المضطهدين. لكن لا أحد يفعل شيئاً تجاه أي مأساة خارج العالم الأبيض (وربيبته إسرائيل) يتجاوز مصلحته. بل لا أحد في العالم يسمح لأي من هذه الأهداف النبيلة بالتعارض مع مصلحته بغض النظر عن الثمن الدموي لهذه المصلحة. هنا تتساوى الدول العظمى والدول الصغرى التي لها مصلحة في سورية، الدول العدوة والدول الصديقة، الدول الأجنبية والدول الشقيقة.
لا الرابط القومي ولا الرابط الديني أو الجوار الإقليمي نفعت في التقليل من التدخل السافر لدول عدة في الصراعات السورية أو في التخفيف من عناء هذا التدخل عن ضحاياه من السوريين. الكل هنا متواطئون أو على أقل تقدير غير مكترثين. ومع ما في هذه الملاحظة من القنوط والسوداوية إلا أنها لا تأتي بجديد. هذا هو، في نهاية المطاف، درس التاريخ عن المآسي السابقة التي وقف العالم ينظر إليها وهي تتشظى. وهذا ما يجب على القوى السياسية التي ما زالت تحاول أن تجد لنفسها دوراً في سورية، أن تدركه. لا أحد في العالم، ومنذ بداية المأساة، مهتماً حقاً بإيقافها أو بالتخفيف من آثارها أو مآلاتها. ولا أحد في العالم سيحل هذه المآساة سوى السوريين أنفسهم. أما كيف يحلونها، فإقرار «الائتلاف الوطني السوري» أخيراً بأن الحل السياسي للصراع السوري لم يعد مطروحاً على الطاولة ربما شكّل الدلالة الأوضح على أن الحل، للأسف، سيأتي بمزيد من الدمار.
الحياة – ناصر الرباط