كثيرة هي الانطباعات الخاطئة التي تولّدت منذ احتدام المعارك في حلب الشرقية، قبل أربعة أشهر، لكن أكثرها خطأً هو ما يشعر به الناس هذه الأيام، وما تقوله وسائل الإعلام، والكلمات التي تستخدمها لتوصيف استئناف روسيا والنظام السوري القصف على أحياء حلب الشرقية، وكلمة استئناف، بحد ذاتها، هي التعبير الأكثر وضوحاً عن الانطباعات الخاطئة.
بدايةً، تشكّل انطباعٌ بأن روسيا نزلت، بكامل ثقلها العسكري قوة عظمى، لإنهاء معركة حلب، وأن هذا سينتهي خلال أيام، وأنها ستنجز “معركتها” بسرعة، وبغض النظر عن النظام وبعدم التنسيق معه، ثم تبين أن هذا كان انطباعاً خاطئاً، وأن روسيا لم تدخل بكامل ثقلها، أو أن “كامل ثقلها” غير كافٍ لحسم المعركة، فتولّد بالتالي انطباع ثانٍ بأن المعارضة السورية في حلب الشرقية أقوى مما كنا نظن، وأنها سترد العدو وستحسم المعركة لصالحها في حلب. ثم تشكّل انطباع بأن هناك اتفاقاً ما من تحت الطاولة بين الروس والأميركان يتناقض مع إعلان فشل الاتفاق على خروج مسلحي “جيش الفتح” (جبهة النصرة سابقاً) ووقف العمليات العسكرية في شرق حلب. تولدت كل هذه الانطباعات بسبب أن مسار الأحداث كان غير مفهوم بما يكفي لجميع المراقبين، حتى كان يوم 18 أكتوبر/ تشرين الأول، حين أعلنت روسيا، من جانب واحد، وقف القصف الجوي على ريف حلب، ثم أعلن المبعوث الأممي إلى سورية، ستيفان دي ميستورا، مبادرته التي تقضي بخروج مسلحي “جيش الفتح”، واستعداده لمرافقتهم شخصياً باتجاه إدلب.
الانطباع الحالي هو استئناف روسيا والنظام السوري العملية العكسرية والقصف الجوي والبحري والصاروخي على شرق حلب، والذي يدل على أن الشهر الذي توقفت فيه العمليات كان مجرد تحضير لعملية أكبر، ووصول حاملة الطائرات أميرال كوزنتسوف إلى الساحل السوري وانطلاق الطائرات الحربية منها، وليس من قاعدة حميميم الروسية هو مفاقمة حالة عدم الفهم واضطراب الرؤية التي تزيد من توليد الانطباعات الخاطئة.
في الوقت نفسه، وفيما كانت الطائرات الروسية والسورية تغير على أحياء مساكن هنانو والصاخور، وتلقي البراميل المتفجرة والقنابل المظلية والبوالين الحرارية لتضليل الصواريخ المحمولة في حال وجودها لدى المعارضة، كانت وزارة الدفاع الروسية تعلن أن قواتها لم تستهدف أحياء حلب الشرقية، فيما كان شهود عيان ينقلون، عبر وسائل الإعلام، صور تفجيرات حديثة وسيارات إسعاف تنقل مصابين، كما أن النظام، قبل يومين من بدء العملية، حذّر المدنيين الموجودين في الأحياء المستهدفة من أنه سيبدأ هجوماً استراتيجياً، وسيستخدم فيه أسلحة عالية الدقة، ووضع السكان أمام خياري الخروج من حلب أو تسليم أنفسهم لجيش النظام خلال 24 ساعة.
إذاً، وصول حاملة الطائرات أميرال كوزنتسوف، وكذلك وصول الفرقاطة أميرال غريغوروفيتش ومشاركتها بالعمليات، وإطلاق صواريخ عابرة بعيدة المدة من البحر باتجاه حلب، والحملة النفسية التي قام بها النظام، ويدل ذلك كله على أن فترة توقف العمليات لم تكن هدنةً إنسانية، ولا فرصة لخروج المدنيين، أو خروج مقاتلي “جيش الفتح”، ولا إعطاء فرصة للجهود الدبلوماسية للوصول إلى حلّ ما في حلب، بل كان ذلك كله حاجة روسية لبعض الوقت، لتعزيز قواتها وحشد إمكاناتها، وأن الايام المقبلة ستكون شديدة وقاسية، خصوصاً مع وجود 250 ألف مدني في الأحياء المستهدفة لم يتمكّنوا من الخروج منها، لأسباب متعدّدة، منها نقص الثقة بالتزام النظام بعدم استهدافهم قصفاً أو اعتقالاً، وكذلك إجراءات “جيش الفتح” المشدّدة بمنعهم من الخروج، ووضعها شروطاً صعبة على الراغبين بالخروج.
ويفاقم التوقعات للأيام المقبلة إعلان الأمم المتحدة أن المواد الغذائية المتبقية في شرق حلب ستنفد خلال أيام، لأن هذه المناطق تعيش حصارا مطبقاً منذ أشهر، وآخر مساعدات غذائية دخلت إليها كانت في يوليو/ تموز الماضي.
قد يكون هذا الكلام مجرّد انطباع خاطئ جديد، وأن ما يبدو من جبل الجليد لا يكفي لتكوين صورة واضحة المعالم لما تخطّط له روسيا، أو لما اتفقت عليه مع الأميركان المشغولين بنقل الإدارة من الديموقراطيين إلى الجمهوريين، لا سيما وأن العمليات الروسية شملت كذلك محافظتي حمص وإدلب، وبشكل خاص مناطق معرّة النعمان وسراقب وأريحا وجسر الشغور، والتي يسيطر عليها بالكامل “جيش الفتح” منذ منتصف العام الماضي.
العربي الجديد – علا عباس