نك الأهداف” التركي في محافظة إدلب بسوريا آخذ في الازدياد. حسب تقارير وزارة الدفاع في تركيا، فإنها قد دمرت في بداية الأسبوع 82 هدفاً سورياً، منها 9 دبابات وقاذفتا هوبتسار وست منصات لإطلاق الصواريخ وسيارتان عسكريتان و299 جندياً سورياً. بالإجمال، تم إحصاء حتى الآن أكثر من 2500 قتيل في أوساط القوات السورية بالنار التركية، بعضهم من المليشيات وبعضهم من الجنود النظاميين. ولا توجد أي تقارير عن عدد المدنيين الذين قتلوا في هذه الهجمات، وكأن كل قتيل هو في الأصل عدو مسلح. من الجهة الأخرى، يتحدث الأتراك عن نحو 50 جندياً تركياً قتلوا منذ بداية المواجهات بين الطرفين.
معظم الهجمات الجوية تنفذها تركيا بواسطة طائرات بدون طيار، صنعت في شركات تركية مثل “كالي غروب” و”بايكر تكنولوجي” كجزء من حلم الرئيس رجب طيب اردوغان لإنشاء بنية تحتية عسكرية وتكنولوجية مستقلة لا تعتمد على مزودين من الخارج. “كالي غروب” التي بدأت طريقها في خمسينيات القرن الماضي كشركة لإنتاج البلاط، ليست منتجة للبلاط الأكبر في الدولة فحسب، بل هي إحدى الشركات الكبيرة في تركيا، وتسيطر على 17 شركة تقريباً تقوم بإنتاج قطع لطائرات قتالية أمريكية. وقد كانت شريكة في مشروع إنتاج الطائرة المتملصة اف 35 الذي طردت منه في أعقاب قرار أردوغان شراء أنظمة صواريخ مضادة للطائرات من طراز “اس 400” من روسيا.
شركة “بايكر تكنولوجي” التي يترأس قسم التطوير والهندسة فيها سولتسوك بيرق دار، صهر أردوغان، زوج ابنته الصغيرة، هي الشراكة الرائدة في تخطيط وإنتاج الطائرات بدون طيار الجديدة التي يمكنها البقاء أكثر من 24 ساعة في السماء والقادرة على حمل رأس متفجر كبير. مؤخراً، أعلنت الحكومة التركية عن تخصيص 100 مليون دولار لتطوير الطائرات بدون طيار، وهو تخصيص صادق عليه صهر آخر لأردوغان، وهو وزير الاقتصاد والمالية برات البيرق.
ولكن المصالح الاقتصادية لعائلة أردوغان في حرب إدلب يمكن الآن أن تواجه بعائق مفخخ، مقابل التهديد الذي تضعه الحرب أمام العلاقات بين تركيا وروسيا. أمس، التقى الرئيس الروسي فلادمير بوتين مع اردوغان في محاولة للتوصل إلى تفاهمات جديدة فيما يتعلق بإدارة المعارك في شمال سوريا بعد المواجهات العنيفة بين القوات السورية والقوات التركية التي أدت إلى الاتهامات المتبادلة بين الدولتين العظميين. وقد بدأت روسيا في تبني خطاب عدائي مباشر ضد تركيا، حيث اتهمتها بخرق اتفاق سوتشي، الذي تم التوقيع عليه في أيلول 2018، والذي كان يجب على تركيا أن تخرج المليشيات المتطرفة من محافظة إدلب مثل جبهة تحرير الشام، وأن تنزع سلاح المليشيات الأخرى. تركيا من ناحيتها تتهم سوريا وروسيا بالمس بقواتها والسيطرة على مداخل إدلب.
فرصة ترامب
الضغط السوري – الروسي على محافظة إدلب التي كان يمكن أن تشكل منطقة قليلة العنف، آخذ في التزايد. المفترقات الرئيسية التي تربط بين المحافظة وتركيا سيطرت عليها سوريا، وثمة موجة جديدة من آلاف اللاجئين الذين يقفون على الحدود مع تركيا. روسيا وسوريا رفضتا هذه الادعاءات وقالتا إن تركيا هي التي تمنح الدعم العسكري للمليشيات المسلحة التي يقدر عدد مقاتليها بخمسين ألف مقاتل، وأن قوات هذه المليشيات تم دمجها في القواعد التي أقامتها تركيا حول محافظة إدلب. وسائل إعلام في روسيا، تستخدم لغة أقل دبلوماسية، تتحدث عن التعاون الذي كان بين تركيا وداعش، وعن العقوبات التي فرضتها روسيا على تركيا في العام 2015 بعد إسقاط الطائرة الروسية في سماء تركيا، كإشارة واضحة على أن روسيا قد تعود إلى طريقة العقوبات التي أضرت باقتصاد تركيا بشكل كبير.
أي إعلان روسي رسمي لم يؤكد نية فرض العقوبات. وفي الوقت نفسه، تطرح وسائل الإعلام التركية تهديدها الخاص عندما تحذر بأنه إذا قامت روسيا بفرض عقوبات على تركيا، فإن الأخيرة يمكنها إغلاق مضائق البوسفور أمام السفن الروسية. قانونياً، مشكوك فيه إذا كان لدى تركيا القدرة على إغلاق المضائق، باستثناء إثباتها بأن السفن الروسية تعرض أراضيها للخطر، لا سيما مدينة إسطنبول. ولكن يكفي هذا الحوار المسمم الذي يجري في وسائل الإعلام التي يسيطر عليها زعماء الدولتين كي نفهم إلى أين تدهورت العلاقات بينهما.
تركيا تحاول الآن أن تبني لنفسها نظام دفاع سياسياً توقفه على أرضية متساوية مع روسيا. اردوغان قال بأن تركيا كعضوة في الناتو يمكنها أن تطلب من زميلاتها، لا سيما الولايات المتحدة، الدفاع عنها من هجوم سوري وروسي. شرعية هذا الطلب مشكوك فيها مقابل حقيقة أن تركيا هي التي بادرت إلى الهجوم أولاً في سوريا عندما احتلت مناطق للأكراد في شرق الفرات. وبعد ذلك سيطرت على مدينة عفرين الكردية، والآن هي تتواجه مع الجيش السوري.
الولايات المتحدة لا تحلم بالانضمام إلى حرب في سوريا إلى جانب تركيا، لكنها تشخص وجود فرصة لإزعاج روسيا، لا سيما بعد أن طلبت تركيا منها تزويدها ببطاريات باتريوت المضادة للطائرات. الولايات المتحدة عرضت في السابق على تركيا شراء الصواريخ الأمريكية إذا تنازلت عن صفقة شراء الصواريخ من روسيا. ولكن لأن تركيا لم تتنازل عن الصفقة التي تبلغ 3 مليارات دولار وهي تنوي شراء طائرات قتالية من روسيا، فإن الولايات المتحدة قررت التراجع عن هذا العرض. ويواجه طلب تركيا انقساماً كبيراً في الإدارة الأمريكية الآن. البنتاغون يرفض بيعها بطاريات الباتريوت، ولكن المبعوث الخاص للشؤون التركية، جيفري جيمس، يعمل كمجموعة ضغط من أجل الموافقة على هذا الطلب. جيمس ليس دبلوماسياً مجرباً فقط، والذي كان أيضاً سفيراً في تركيا، بل ويتحدث اللغة التركية، وقد أظهر في عدة مناسبات تقديره وتحمسه لتركيا، وهو صديق مقرب لأردوغان. في هذا الأسبوع جاء للقاء الرئيس وأحضر معه تعهداً من أمريكا بمساعدة تركيا بالسلاح والذخيرة في المعركة على إدلب. رزمة المساعدة لا تشمل في الحقيقة بطاريات الباتريوت، لكن ربما إذا لم يحقق اللقاء بين اردوغان وبوتين تسوية وزادت المواجهة شدة، فإن الولايات المتحدة ستوافق على طلب تركيا.
تهديد اللاجئين
مع ذلك، من غير الواضح تماماً لماذا تحتاج تركيا إلى بطاريات الباتريوت. في أي سيناريو محتمل، لا يبدو أن روسيا تنوي مهاجمة تركيا في أراضيها بواسطة الطائرات أو الصواريخ. أما ضد الطائرات السورية فهناك في أيدي تركيا وسائل دفاعية كافية. يبدو في هذه الأثناء أن مسألة تزويد الباتريوت مهمة بالأساس على المستوى السياسي من أجل التوضيح لروسيا بأن لدى تركيا دعماً أمريكياً قوياً، رغم التوتر مع واشنطن. لا يكتفي اردوغان بالدعم الأمريكي، بل يعمل على تجنيد دول الاتحاد الأوروبي إلى جانبه، ليس كشركاء في المعركة العسكرية، لكن كأصحاب تأثير وقدرة على الضغط على بوتين.
كعادته، لا يعتمد اردوغان على الدبلوماسية التقليدية وعلى خطاب لطيف؛ فهو يهدد الدول الأوروبية بأنه إذا لم تساعده في إقامة المنطقة الآمنة في سوريا، التي يطمح لنقل مليون لاجئ إليها من الأربعة ملايين لاجئ سوري يقيمون في تركيا، فسيقوم بفتح المعابر الحدودية ويسمح للاجئين بالدخول إلى أوروبا دون إزعاج. عملياً، هو فعل ذلك هذا الأسبوع. وحسب تقارير صدرت عن مكتب الرئيس، فإن 80 – 100 لاجئ اجتازوا الحدود إلى اليونان دون أن تمنعهم القوات التركية من ذلك.
لا يكتفي اردوغان بمطالبة مالية تبلغ 3 مليارات دولار (إضافة إلى الـ 6 مليارات التي وعد بها في السابق عند التوقيع على اتفاق اللاجئين في 2016)، بل يطلب دعمه في المعركة التي يديرها في سوريا. دول الاتحاد مذعورة حقاً من تهديد تركيا، الذي ترجم في السابق إلى أفعال. ولكن موضوع التمويل ما زال مختلفاً فيه. ومن غير الواضح للاتحاد كيف تم توزيع أموال المساعدات التي دُفعت في السابق، هل وصلت إلى الأهداف التي خصصت لها وهل صح ادعاء اردوغان بأن تركيا أنفقت 40 مليار دولار من أجل استيعاب ودعم اللاجئين. هذه الأسئلة يتم فحصها الآن في أروقة مؤسسات الاتحاد الأوروبي، ولم تُطرح على تركيا حتى الآن، خشية أن لا يصمد فتيل اردوغان القصير أمام تحقيق أوروبي، لا سيما عندما تكون في يده عبوة متفجرة تهز الفضاء العام والسياسي في أوروبا.
نسيج التهديدات الذي تم نسجه بين تركيا وروسيا وبين تركيا والاتحاد الأوروبي، يجب عليه الآن أن يزيح وبحذر فتيلاً تلو فتيل، من أجل منع مواجهة عنيفة ومباشرة. وتطالب تركيا بأن تنسحب قوات الأسد إلى المواقع التي كانت فيها قبل بدء المعركة على إدلب، وفتح الشارعين الرئيسيين باسم “أم4″ و”ام5” اللذين يربطان بين إدلب وتركيا، ووقف الهجوم على إدلب من أجل وقف تيار اللاجئين. عملياً، يمكن لروسيا الموافقة على هذا الطلب، لكنها ستطلب في المقابل برنامج عمل محدداً بجدول زمني متفق عليه يتم –وفقه- إخلاء قوات المليشيات المسلحة من محافظة إدلب. المشكلة هي أن روسيا لا تصدق أن تركيا ترغب أو يمكنها الوفاء بهذا الالتزام؛ فطالما ظلت هذه المليشيات موجودة في إدلب فإنها تمنح تركيا رافعة سياسية تحافظ على مكانتها كواحدة من الدول الثلاث (إلى جانب روسيا وإيران) التي سترسم الحل السياسي للحرب في سوريا.
في اللحظة التي سيتم فيها تفكيك هذه المليشيات ولا تعود تشكل تهديداً عسكرياً أو عائقاً أمام نشر قوات الأسد في محافظة إدلب، سيتم انتزاع ذريعة وجود تركيا العسكري في سوريا. هذا الوجود حيوي بالنسبة لتركيا كي تواصل حربها ضد تجمعات الأكراد في شمال سوريا، التي تعتبرها تهديداً على أمنها القومي. وإذا لم تتوصل روسيا وتركيا إلى تفاهمات حول مسألة تفكيك المليشيات، فيمكن للحرب في سوريا أن تتحول من معركة بالوكالة إلى مواجهة مباشرة ستجر إليها دولاً أخرى.
بقلم: تسفي برئيل
هآرتس 6/3/2020