ليس غريباً أن يتعامل النظام السوري مع وباء «كورونا» كما تعامل مع مختلف أزماته، خصوصاً مع ثورة السوريين التي مرّت، منذ أيام، الذكرى التاسعة لانطلاقتها، وذلك بالتأرجح بين حالة إنكار الوقائع الدامغة، وتحميل ما يضطر للاعتراف به من مشكلات، إلى عدو خارجي يتربص به لكسر إرادته وتطويع موقفه الممانع، تحدوه سياسة ثابتة، ديدنها التنصل من المسؤولية ورفض الاعتراف بتفاقم أزمات المجتمع، وتوسل مختلف أساليب القمع والفتك والإرهاب لإبقاء الأمور تحت السيطرة، والناس في بيت الذل والطاعة.
والقصد أنه ليس غريباً على سلطة مستبدة استخفّت بدوافع ثورة السوريين، ودأبت على إنكار ما يعانونه من ظلم وتمييز وحرمان… على سلطة استهزأت بحراك ملايين المتظاهرين سلمياً واعتبرتهم قلّة قليلة لا قيمة لهم ولا وزن، بل مجرد أدوات للأجنبي… سلطة أنكرت وجود معتقلين لديها أو حتى ممارسة التعذيب في سجونها، مدعيةً أن صور آلاف الضحايا من المعتقلين التي سُرّبت باسم «قيصر»، هي صور مفبركة تعود لمخلفات الحرب العالمية الثانية… سلطة لم يرف لها جفن، بداية، بقتل المئات من الشبان والأطفال المسالمين برصاص قواتها، ثم أوغلت في العنف والتنكيل والتدمير، مستهترة بآلام الناس والدم المراق، وبأعداد ما فتئت تزداد من الضحايا والمشوهين والمعتقلين والمشردين، ليس غريباً على سلطة كهذه، أن تشيح بوجهها عن ضحايا يسقطون تباعاً جراء إصابتهم بفيروس «كورونا»، مدعية أن البلاد خالية تماماً من هذا الوباء، ومكرّسة أدواتها القمعية لكمّ الأفواه التي تكشف انتشار الداء أو حتى التلميح بوجوده، كما حصل مع رئيس مشفى «المجتهد» في دمشق، الذي اعتقل وأرهب وأكره على تعديل تصريحه عن وجود إصابة «كورونا» في مشفاه، إلى القول إنها كانت حالة اشتباه فقط!
وكما يحصل مع كل مَن يبادر، عبر وسائط التواصل الاجتماعي، إلى كشف أسماء بعض الضحايا السوريين الذين سقطوا بهذا الوباء، عبر ملاحقته ومعاقبته على أنه يشيع أخباراً كاذبة غرضها النيل من هيبة الدولة!
واستدراكاً، فقد أفضى تكتم النظام عن المصابين بفيروس «كورونا»، إلى زيادة سريعة في أعدادهم، وإلى تأخير إجراءات وقف انتشاره، كضبط العلاقات العامة وإغلاق مراكز الحدود وحركة الطيران، وهي إجراءات لا تزال شكلية، بل ومثيرة للألم والسخرية، ما دامت لا تترافق مع تدابير وقائية وفحوصات طبية تحدّ من انتقال الفيروس بين المدن والمناطق، وما دام ثمة عشرات ألوف المقاتلين من إيران ولبنان وباكستان وأفغانستان، يصولون ويجولون على راحتهم في البلاد، وبينهم عشرات المصابين بداء «كورونا»… فكيف الحال مع ضحالة الإمكانيات الطبية، بعد أن تولى النظام بنفسه تدمير أهم المقومات الصحية التي كانت تمتلكها البلاد، ولنتذكر هنا الأرقام المفزعة لأعداد الأطباء والكفاءات العلمية الذين قضوا أو هُجّروا، وإذا أضفنا تدهور الوضع المعيشي للناس والانحسار الشديد في قدرتهم على توفير أبسط المستلزمات الحياتية، فما بالكم بالصحية؟!
نقف عند أهم الأسباب التي تؤكد مدى بؤس هذا النظام وعجزه عن القيام بأي فعل مجدٍ في مواجهة انتشار «كورونا»، مقارنة مع دول ذات إمكانيات أفضل، ولا تزال تعاني من محاصرة هذا الوباء واحتوائه!
وما يزيد البؤس بؤساً حين يتنطع وزير الصحة، ليس فقط للمفاخرة بأنه لا توجد في سوريا أي إصابة بـ«كورونا»، وإنما أيضاً إلى اعتبار ما اتخذ من إجراءات غرضه وقائي فقط، وذلك لحماية البلاد من وباء عالمي بدأ يتفشى و«يحاول الأعداء والمتآمرون نقله إلينا»! متمثلاً اتهامات حليفته طهران للولايات المتحدة بأنها المسؤولة عن نشر «كورونا»، والأنكى حين يشيد بدور «الجيش السوري» في تطهير البلاد من «كورونا» كما طهرها من مختلف الجراثيم، كذا!
هو نهج أصيل لدى السلطة القائمة؛ أن توظف إعلامها ودعايتها، مع كل أزمة أو مصيبة تحل بنا، لتقرن ما يحصل بمؤامرة مدبَّرة من فعل أطراف معادية تترصد بمجتمعنا، وعليه فما نعانيه من تخلف وفشل لمشروعات التنمية سببه المؤامرة، وهذا الحضور المرهق للفساد والفقر والتخلف سببه المؤامرة، وما شهدته البلاد من مظاهرات شعبية تطالب بالحرية والكرامة كان المؤامرة الكونية، واليوم يغدو انتشار فيروس «كورونا» مؤامرة أيضاً، ولا ضير عند أصحاب السلطة من تسخير بعض الاجتهادات الدينية لمزيد من التحلل من المسؤولية، على أن كل ما يحصل مع «كورونا» هو قضاء وقدر لا رادّ له، بدل التوجه العلمي لمحاصرة أسباب المرض ومعالجة آثاره وتداعياته.
ربما يصح القول إن الجانب المضمر لثورة السوريين، هو تجنيب مجتمعهم المآل المأساوي الذي كانت ولا تزال سياسات النظام تقودهم إليه، في رهان على اعتراف الأخير بالأسباب الحقيقية للمشكلات المزمنة، والعمل على محاصرتها، ومنع الانزلاق نحو الأسوأ، إلا أن الأخير أبدى، كعادته، إصراراً على الإنكار، وعلى رفض الاعتراف بالحقائق المريرة، وأولوية معالجتها، حتى لو أحرقت البلاد وتم الدفع بسوريا والسوريين جميعاً إلى أتون حرب دموية لن تبقي ولن تذر، والنتيجة تهتك الدولة وتفكيك روابط الاجتماع الوطني وتشويهه طائفياً، وفتح الأبواب أمام عصابات التطرف الديني والتدخلات العسكرية الخارجية، واليوم، أمام مختلف الأوبئة والأمراض للعبث بمصيره.
والحال، فإن نظاماً يأبى الاعتراف بأزمات مجتمعه ويتلكأ في معالجتها، هو نظام يتخلى عن المسؤولية الطبيعية الملقاة على عاتقه، في ضمان حيوات الناس وحقوقهم وحاجاتهم، الأمر الذي يتضح في السياسة السلطوية تجاه «كورونا» وما قبلها، بأننا أمام نظام لا يريد الإقرار بفشله وعجزه عن إدارة الدولة وحماية المجتمع، بل يعيد تأكيد نهجه في تصعيد الإرهاب والقهر، متوهماً أن وسائل الفتك والتنكيل التي يمتلكها قادرة على تأبيد سطوته ومعالجة أي مشكلة تعترضه.
في أيام الخطب والكوارث عادة ما يجري البحث عن الأسباب والدوافع لوضع الخطط الكفيلة بالتجاوز، لكن في سوريا، وعلى الرغم من مأساوية ومرارة ما كابده ويكابده المجتمع بعد سنوات من الفتك والتنكيل والتدمير، يبدي أصحاب السلطة إصراراً بغيضاً على مواجهة جائحة «كورونا» بالتجاهل والاستهتار، وتوسّل نظرية المؤامرة في تحميل الآخر مسؤولية ما يحدث، والأنكى التعويل كعادتهم، على قمعهم وعنفهم في معالجة ما لا يمكن للقمع والعنف معالجته!
نقلا عن الشرق الأوسط _ أكرم البني