في مقابلة حديثة مع صحيفة “لوفيغارو” الفرنسية، لم يذهب مدير الاستخبارات الأميركية السابق مايكل هايدن إلى التوقعات في تفتيت المنطقة، كما سبقه مدراء الاستخبارات الأميركية والبريطانية والفرنسية في مؤتمر أمني السنة الماضية. إنما أوضح أن التفتيت أصبح واقعاً قائماً في سوريا والعراق بين “مكوّنات” شيعية وسنّية و “داعش” والكرد…. فيما البلدان الأخرى كلبنان والأردن تعيش على وقع تلاشي “سايكس بيكو”. وعلى وقع الأمر الواقع أفصح سرور مسعود برزاني عن دعوة الإقليم الكردي لتقسيم العراق إلى ثلاث دول طائفية ـ عرقية بعد الانتهاء من “داعش”، بينما كشفت الرئيسة المشتركة لرئيسة “روج آفا” عن اجتماعات في واشنطن وموسكو وأوروبا لإقرار “دستور فيدرالي” بعد منبج. غير أن الأهم في البحث عن مآل التحولات في سوريا والمنطقة، ليس محاولة أطراف في الضفة الأميركية استثمار متغيرات الأمر الواقع لمصلحتها، بل هو عدم بحث الأطراف المناهضة للضفة الأميركية عن مواكبة التحوّلات في رؤية بديلة ومشروع بديل.
حسابات موسكو وخصومها
الرئيس السوري بشار الأسد يندّد في خطابه الأخير بمحاولات التقسيم والتفتيت، مراهناً على الميدان في استعادة كل الأراضي السورية كما كانت سوريا بل أفضل. وإلى جانبه تعوّل إيران على هزيمة “الإرهاب التكفيري” في سوريا والعراق، مقدّمة لتسوية إقليمية “تاريخية” مع السعودية وتركيا، فتنعكس على سوريا في مصالحات تؤدي إلى تسويات المشاركة في السلطة وعودة الاستقرار. لكن هذه المراهنات هي نتيجة قراءة لاتاريخية في أسباب انهيار دول المنطقة وفي سبُل إعادة بنائها بمتغيرات نسخت ما كان قبلها. وهي تتباين مع التطلعات الروسية في سوريا والمنطقة، سواء في هزيمة “داعش” والجماعات الإرهابية، أم في ما تأمله موسكو من “الحل السياسي” وما تسميه “التعاون مع الشركاء”، بما في ذلك الخصوم في السعودية وتركيا ودول الخليج. فالرئيس الروسي الذي يتراءى للبعض ابتلاعه “خدعة أميركية” في وقف الهجوم لاستعادة حلب وأريافها، ينطلق من خيارات سياسية ومن موازين القوى في رؤيته واقع التحوّلات الجيوسياسية. وهو يأمل في المقام الأول توظيف ما يمكن استثماره من متغيرات المنطقة في التنافس مع الشركاء، سعياً لحماية الأمن القومي الروسي وتوسّع النفوذ والمصالح العليا لروسيا، من الطوق الأميركي في أوروبا الشرقية والبلطيق والقوقاز.
روسيا ـ بوتين التي تخيّلها هواة الهوى ذاهبة لاستعادة الحرب الباردة برغم نفي قيادتها المتكرر، تتنافس مع الولايات المتحدة في مجرى استراتيجيات يغلي قِدْرها بمصالح عولمة النموذج وتبايناتها، فيُنتج غليان القِدْر عوامل إلغاء دور الدولة وتفتيت السلطة المركزية بين “المكوّنات” العرقية والإثنية والطائفية، كما ينتج أيضاً التقاطعات مع المجموعات الارهابية بحسب الأولويات في تناقض المصالح. وفي هذا المجرى تتناغم روسيا وغيرها (الصين ودول “البريكس”..) مع الادارة الاميركية والمجموعة الأوروبية في أسس النموذج المعولم، لكنها تختلف معها في “مكافحة الارهاب” ومن وراء الاختلاف مصلحة كل طرف في مواجهة ما يراه تهديده الارهابي الخاص بين أولوياته المتعارضة مع أولويات الآخرين (تركيا والكُرد، السعودية و”الأذرع الإيرانية”، تقاطع الحلف الأميركي مع “النصرة” في مواجهة “داعش” ضد إيران وحلفائها..).
في سوريا انتهز بوتين فضيحة الفشل الأميركي في إنشاء جماعات مسلّحة خاصة بواشنطن، لكي يتسنّى له التدخل العسكري في سوريا. فهذا الفشل الذي يكشف استعصاء صناعة “معارضة معتدلة” بعد اندثار “الجيش الحر”، حرَم الإدارة الأميركية من التدخل على الأرض بأدواتها الخاصة (فما وصف بتردد أوباما سبّبته هذه المعضلة، لأن واشنطن تتدخل بجيوشها أو بأدواتها المباشرة لضمان قيادة حلفاء الثرثرة “بالمجتمع الدولي” إلى أهداف استراتيجية أميركية خاصة). وهو ما دفع واشنطن للتقاطع مع حلفائها الاقليميين والمحليين على “النصرة” في مواجهة “داعش”، وفي التعويل على “النصرة” وحلفائها لتضييق الخناق على روسيا من سوريا إلى القوقاز والقرم. فحين يقول بوتين “بحسم معركة الإرهاب على الأرض السورية”، فهو يقصد ارهاب “داعش” و “النصرة” معاً الذي يهدّد روسيا ويمكن أن يدق أبواب الكرملين من الجمهوريات الروسية نفسها. أما قوله بأن “مستقبل سوريا يحدّد مستقبل المنطقة”، فهو كما عبّر في اجتماع سفراء روسيا السنوي، في إطار “احتدام الصراع على الموارد والأسواق في العالم”. لكنه مستقبل في سياق التفاهم مع واشنطن على افرازات النموذج النيوليبرالي الجيو سياسية، ومن ضمن هذه الافرازات التلقائية تفتيت ما تبقى من دور الدولة في المنطقة وتكبيل حركة السلطة المركزية بسلطة “المكوّنات” الطائفية والعرقية. فالتفاهم الثنائي يتضّمن الاتفاق على “استحالة الحسم العسكري” بمعنى التفاهم على تركيب سلطة سياسية من مجمل القوى السياسية والعسكرية بامتداداتها الاقليمية والدولية. ويتضمّن كذلك المحافظة على الحدود السياسية لكل بلد بناء على تقسيمات “سايكس ـ بيكو” بحسب مقولة “التمسك بوحدة الأراضي السورية”، ويتضمّن رفض إنشاء دول جديدة كما يسعى إقليم كردستان العراق، وكذلك رفض تمدّد أراضي الدول كما اصطدمت تركيا بواشنطن وموسكو لإنشاء حديقة خلفية في سوريا أو التمدد إلى الأراضي العراقية.
إن رفض تقسيم الأراضي هو لأسباب جلل أهمها سياسة فتح الأسواق في ما يسمى الحريات الأربع (التجارة والرساميل والبضائع والأشخاص)، بما يتسع لخضوع هذه السوق إلى سياسات وتشريعات تقررها مؤسسات الرساميل الدولية الكبرى. ففي إطار إلغاء دور الدولة الناظم للسياسات، تتفتّت السلطة المركزية بين “مكوّناتها” وتنشلّ بحسب “الديموقراطية التوافقية” تحت تأثير “الأقاليم الفيدرالية” أو ما تسميه موسكو “مجلس المحافظات” (بحسب تسريب روسيا إلى الإعلام إثر التفاهم على الدستور في سوريا بين موسكو وواشنطن). فهذا الأمر هو تحصيل حاصل التحولات النيوليبرالية من ضمن التفاهم الروسي ـ الاميركي على مستقبل المنطقة، وعلى هذه القاعدة الأساس ترتسم قواعد الاشتباك الميدانية اليوم بين موسكو وواشنطن في مواجهة الخصوم والأعداء. فروسيا تتدخل عسكرياً في سوريا لمنع كسر المعادلات التي تؤدي إلى خرق التوازنات مع واشنطن في التفاهم على “الحل السياسي”، لكنها لا تذهب بدورها إلى كسر المعادلات بما يطيح التوازنات والتفاهم. فـ “زيادة السيطرة على الأراضي قد تعطّل الذهاب إلى مفاوضات الحل السياسي”، بحسب بوتين. وهذا الأمر لا يحكم فقط ما سماه البعض “الخدعة” بشأن وقف الهجوم لاستعادة حلب، إنما قد يحكم أيضاً “خدعات” أخرى لوقف محاولة وصل سوريا بالعراق عبر حمص ـ تدمر ـ دير الزور، أو وقف مساعي كسر التوازنات في الشمال السوري لاسيما في أرياف حلب الشمالية، أو محاولة تغيير الجغرافيا السياسية بين الموصل والرقة.. فترتسم “المحافظات ـ الأقاليم” بما يحفظ نفوذ الجماعات المسلّحة في سوريا ونفوذ الدول الإقليمية الداعمة لها تحت رئاسة الرئيس السوري “في المرحلة الانتقالية”، وعلى هذا النسق الذي أسّسته واشنطن في العراق، ترتسم مآلات التحوّل في سوريا وصولاً إلى المنطقة التي تعجّ بأعراقها وطوائفها وإثنياتها وقد تهدّد تركيا وإيران آجلاً إن لم يكن عاجلاً.
ما بعد الحرب السورية
يبدو أن “الأزمة السورية” لا تنجلي معالمها قبل حلّ أزمة فصل “النصرة” عن “المعارضة المعتدلة”. وفي هذا الصدد قد تكون الانعطافة التركية غير حاسمة للتعويل على أنقرة في فصل “النصرة” مقابل مراهنة أردوغان على التقارب مع موسكو (وحتى الدولة السورية وإيران) في وقف توسّع “الإرهاب الكردي” إلى تركيا. فللجماعات أرباب أخرى في “التحالف السعودي” الذي يضرب في سوريا تحت الحزام بـ “الشراكة الاستراتيجية الجديدة” مع الولايات المتحدة ومع إسرائيل، أساسها ما يسمى “الاقتصاد للسلام” في فلسطين والمنطقة العربية (استعادة أطروحة شمعون بيريز). فما يسمى “رؤية 2030” هي تعبير عن الاتجاه العام للتحوّلات النيوليبرالية في مستقبل المنطقة، التي وضعتها وتخطط لها “بيوت الخبرة” في الشركات والإدارات الأميركية والأوروبية منذ العام 2012 بشكل تفصيلي وفي كل قطاع. وهي تقوم على معتقدات إيديولوجية لما تسميه “الازدهار والاستقرار” في فتح الأسواق ووضع اليد على الأرض والطاقة والمياه والبيئة الطبيعية.. مثلما تقوم على إيديولوجية “حق الاختيار” في التنافس بين السلع وبين ممثلي “المكوّنات”. لكن من ضمنها أيضاً، مقولات “السلام” ووقف العنف والكراهية لإسرائيل، أو “عدم التدخل في الشؤون الداخلية” وغيرها من أقاويل باتت رائجة حتى بين بعض العروبيين والوطنيين. فالشراسة السعودية في مواجهة إيران وحلفائها هي احتراب على فُتات المصالح وتوسّع النفوذ في سياق النموذج النيوليبرالي، وفي عمقها مراهنة على إزالة سلاح المقاومة لـ “السلام عمود الاستقرار والازدهار” بحسب روّاد النيوليبرالية وشيوخها.
قد ينجح هذا المشروع بعقد هدنات وتسويات بين جماعات السلطة المحتربَة تحت رعاية أميركية ـ روسية، في تقريب المصالح “لوقف الحرب وإعادة الإعمار”. لكنه مشروع يأخذ بنجاحه حريق المنطقة إلى حروب متجددة في احتراب “المكوّنات” فيما بينها ومع السلطة المركزية على فتات السلطة والثروة، وفي حروب أهلية بهويات طائفية وعرقية وجهوية في بلدان ما زالت على الضفاف، وفي حروب طاحنة لمحاولة انتزاع سلاح المقاومة.. إلخ وفي أشكال لا تُحصى من تمدّد الارهاب لعلّ عمليات “داعش” الأخيرة عيّنة منها تعويضاً عن خسارة الأراضي، ناهيك عن حروب التهويد وحروب التجويع والبطالة وديكتاتورية الأسواق. وما من أمل بإحباط مشروع معولم يواكب التحولات على هذا النحو، بأحلام العودة إلى ما قبل الحريق سعياً لإحياء العظام وهي رميم. بل على مستوى الاندماج الاقليمي (تناولناه مراراً على صفحات “السفير”) في الذهاب نحو سيادة عليا مشتركة من العراق وسوريا وإيران وتركيا (وربما لبنان والاردن.. لاحقاً)، يمكن ضمانة الأمن الاقليمي والاستقرار السياسي والاجتماعي، ويمكن ضمانة مجمل الحقوق بما في ذلك حقوق الكرد الثقافية والسياسية من دون ارتدادات تودي إلى الهاوية في تحطيم هيكل الدول الهشّة على رؤوس الجميع. وعلى هذا المستوى الاقليمي يمكن تفكيك نموذج الخراب النيوليبرالي في الانشقاق عن قطعان الثرثرة بأل التعريف (ال ـ اقتصاد، ال ـ تنمية، ال ـ نهضة وما يشابه) فهي هرطقة تصب في طاحونة الاقتصاد النيوليبرالي، في قضائه على الاقتصاد السياسي والاجتماعي الناظم لتوازنات الفئات الاجتماعية في أسباب المعاش وسبُل العمران. كما أن مقاربة الفئات الاجتماعية في نقلها من حقل أسباب المعاش وسبُل العمران، إلى حقل الهويات الدينية والطائفية أو العرقية والإثنية، هي مقاربة المواد الأولية للصناعة النيوليبرالية في “المكوّنات” الاجتماعية وفي “الكيانات” السياسية، ولا يفصل المواد الأولية عن تصنيعها سوى كبسة زرّ في آلات واشنطن وحلفائها.
الظن بمناهضة صناعة التفتيت من دون تغيير مواده الأولية، كالظن في إزالة رغوة عفِنَة عن قِدْر يغلي بجيفة نتِنَة.
السفير