كلما أُضيف عنصر تدخل جديد في الأزمة الناشئة عن ثورة الشعب السوري على نظام الحكم الإقطاعي لعائلة الأسد، كلما نشط راسمو الخرائط في مراكز الأبحاث الغربية في تحبير خطوط ما تلبث أن تتغير كثيراً، أو قليلاً، وبفواصل زمنية متقاربة.
مثل هذا التغيير في الخرائط يدل على أن مصادر راسمي الخرائط لا تتعدى حدود مكاتبهم، مسترشدين فقط بآخر ترسيم لخريطة بلاد الشام والعراق بُعيد الحرب العالمية الأولى، والمنسوبة إلى البريطاني مارك سايكس، والفرنسي فرانسوا جورج بيكو، بإشراف وزير خارجية قيصر روسيا سيرغي سازانوف.
في عام 1915، كانت بدايات الترسيم، وعُرفت الاتفاقية لاحقاً باسم “اتفاقية القاهرة السرية”، قبل أن ينتقل المندوبون الثلاثة إلى بطرسبورغ، ويوقعوا اتفاقية أوسع لتقاسم مناطق النفوذ.
غاب عن الاتفاقية اسم المندوب الروسي، بحيث أصبح اسمها “اتفاقية سايكس – بيكو”، كون الثورة البلشفية فضحت نوايا الإنكليز والفرنسيين، ولانشغال البلاشفة بتثبيت ثورتهم داخلياً.
ما يهمنا، هنا، من الاتفاقية هو النصيب الروسي المفترض فيها.
وهذا المفترض كان ينص على أن تضع روسيا يدها على الولايات الأرمنية في تركيا. كما أقرت الاتفاقية حق روسيا في الدفاع عن مصالح الأرثوذكس في الأماكن المقدسة في فلسطين.
لاحقاً، ضمن نظام القطبية في السياسة العالمية، خاصة بعد اتفاقية يالطا في شباط (فبراير) 1945، كلمة وازنة لروسيا في مقابل النفوذ الأمريكي في المتوسط وشرقه، بعد أن ملأت أمريكا الفراغ الذي تركته كل من بريطانيا وفرنسا بعد أفول امبراطوريتيهما.
الآن، تبدو عبارتا “ضرورة المياه الدافئة للدب الروسي”، وفق تعبير محللين استراتيجيين، و”عودة روسيا لنظام القطبية الثنائية في العالم”، وفق رئيس الدبلوماسية الأمريكية المخضرم، هنري كيسنجر، غير تامتي الإقناع من البوابة السورية، إلا إذا تخيلنا أن المافيا الروسية تريد تحالفاً مديداً مع المافيا السورية قريباً من عدو تاريخي لروسيا تمثله تركيا، وقريباً من صديق تاريخي أيضاً تمثله إسرائيل.
وقد يتم الاقتناع بنجاعة الحسابات الروسية إذا كان هدفها احتلال سوريا بطلب مباشر من الأسد، ليستمر في حكم البلاد على غرار الرئيس الأفغاني، نجيب الله، الذي عينه الاتحاد السوفييتي عام 1986.
لكن هدف التدخل الروسي المباشر اليوم في سوريا أكثر دراماتيكية منه قبل قرن، بالرغم من تشابه ظروف البلد العملاق في التاريخين: 1915 و2015، فالتاريخ الأول سبق انهيار الحكم القيصري بعامين فقط، بينما يمثل التاريخ الثاني حوالي 25 عاماً بعد انهيار الاتحاد السوفييتي، وعودة روسيا إلى حدودها القيصرية، مع ممارسة النفوذ نفسه تقريباً على البلاد التي كانت تشكل الاتحاد السوفييتي.
وبالقياس إلى المغامرة السوفييتية في أفغانستان، وبعد عشر سنوات من الاحتلال، لم يصمد الاتحاد السوفييتي سوى سنتين بعدها، وانهارت امبراطوريته. بعدها، تقوقعت روسيا ضمن حدودها لأكثر من 15 سنة، قبل أن يأتي عهد فلاديمير بوتين الذي مهد للمغامرة الروسية في سوريا هذا العام.
السؤال: هل سيتطور التدخل الروسي إلى انغماس بري للجنود الروس في الحرب الطاحنة بين المعارضات واسعة الطيف لنظام الأسد؟
يصعب تصور ذلك، ويصعب تخيل أن تلقي روسيا بجنودها على غرار ما تفعل إيران بشكل موسع مع بدء الطيران الروسي ضرباته الجوية العشوائية التي خلطت حابل داعش بنابل النصرة، دون أن توفر الجيش الحر، والفصائل الأخرى الموصوفة بالمعتدلة، بل والمدنيين، من ضرباتها الجوية.
التجربة السوفييتية في أفغانستان، بعد تنصيبها نجيب الله رئيساً عام 1986، لم تنقذها من الهزيمة. كما أن براعة نجيب الله في اللعب على الاختلافات الإثنية حتى عام 1992 لم تنقذه هو نفسه من الوقوع تحت ضربات طالبان.
ومن حيث المنبت العقائدي القاعدي، لا تختلف طالبان، ومناصروها من المجاهدين العرب، هناك في أفغانستان، عن داعش والنصرة، هنا في سوريا. كما لا يختلف الاتحاد السوفييتي عن روسيا اليوم، رغم مرور قرن كامل.
المختلف هو نظام بشار الأسد، الذي ورث البلد عن أبيه، ورهنها لحزب الله وإيران، ومن ثم للميليشيات المساندة له بالأصالة، ولداعش والنصرة بالوكالة. على الأقل من حيث مساهمة الأخيرتين في دمار البلاد والمجتمع بقدر ما مع النظام.
والمختلف أيضاً أن الرهن كان دون ثمن، على خلاف نجيب الله في عهد الاحتلال السوفييتي، وحامد كرزاي في عهد الاحتلال الأمريكي. فالأخيران حاولا أن يكونا أفغانيين بولائهما للبلاد، وإن تعاونا مع المحتل، وحاولا التوفيق بين التناقضات الطائفية والعرقية للأفغان لسحب البساط من تحت أقدام طالبان والمجاهدين العرب.
فشل الرجلان في مسعاهما، لكن أفغانستان لاتزال موحدة جغرافياً على الأقل.
في سوريا، بوادر التقسيم السياسي متوافرة، خاصة في ما بعد انطلاق الثورة السورية. ولعل حلاً دبلوماسياً سينضج بعد يأس القوى الخارجية من استحالة نصر أحد الطرفين في ظل موازين القوى والدعم المقدم للمقاتلين في الطرفين.
التقسيم الطوائفي فيها يترسخ طالما امتدت الحرب.
لكن تقسيم الدولة والجغرافيا غير ممكن حتى ضمن معطيات الفوضى الجارية.
الهدم الذي تشهده البلاد على المستوى المادي والعمراني، وعلى مستوى البنية الاجتماعية، يبدو على المديين المتوسط والبعيد ضرورة، ما دمنا مصرين أن بداية ما يحدث الآن كان ثورة.
وعلى الرغم مما تصدِّره يوميات الثورة، والحرب اليومية، من علامات التشاؤم، فإن القراءة السياسية لمواقف المتدخلين في سوريا، لا تقدم دليلاً على تأييدهم لتقسيم سوريا. المتدخلون لا يمكن أن يصرحوا بمثل هذه النوايا. والسوريون من الضعف الآن بحيث يعفيهم ضعفهم وانقسامهم من مقاومة مثل هذا المخطط في ما لو أرادوا. ليبقى موضوع التقسيم بصيغه المختلفة مجرد خبر تصدره مراكز دراسات غربية، وتتلقفه المواقع الإخبارية معززاً بخرائط تختلف بتقدم هذا الفصيل المسلح، أو ذاك، أو بتقدم النظام، أو تراجعه، في المعارك.
سبب ترجيح غياب المصلحة بالنسبة للمتدخلين في التقسيم تأتي من عوامل التنافر البنيوية في المجتمع السوري، التي يشكل بقاؤها مصلحة مديدة لهؤلاء أكثر مما تشكله الحرب نفسها. فالحرب ستنتهي بعد حين، أما التناقضات فيستطيع أصحاب المصلحة تغذيتها إلى الأبد إن لم يتواضع السوريون على صيغة دستور يضمن حقوق المواطنة، والواجبات الأساسية للمواطن، والعدالة الاجتماعية، والقانون العام، والقانون الخاص.
المصدر الآخر لغياب المصلحة في التقسيم هو كثرة اللاعبين، وانقسامهم، أيضاً، وضعف احتمال انتصار أحدهم ليفرض شروطه.
كما أن احتمال اتفاقهم على التقسيم وتقاسم المصالح في سوريا المقسمة مستبعد، حتى لو كان بصيغة الفيدرالية.
علي العائد ـ ميديا24