“عند وصولنا سجن صيدنايا، مزقوا كافة أوراقنا الثبوتية: الهوية وجواز السفر، وحتى دفتر الخدمة العسكرية، كان تصرفا غريبا حينها، لكننا بعد ذلك عرفنا السبب؛ فنحن لن نكون بحاجة لأي أوراق بعد اليوم، نحن في حكم الأموات، ولن نحلم بأن نخطو يوما خارج باب السجن”.
جحيم لم يصدق جلال -وهو شاب ثلاثيني من ريف دمشق- أنه استطاع الخروج منه حيّا منذ أسبوعين، إلا بعد أن وجد نفسه فعلا بين أفراد عائلته، بعد أكثر من ثلاث سنوات من الاعتقال، منها عامان في الأفرع الأمنية وعام في سجن صيدنايا، وذلك بعد أن دفعت عائلته مبالغ طائلة مقابل الإفراج عنه.
سجن صيدنايا من أكبر السجون السورية، ويقع على بعد نحو ثلاثين كيلومترا شمال دمشق، وعرف منذ تشييده عام 1987 بأنه سجن عسكري يضم آلاف الجنود والضباط المتهمين بمخالفة القوانين العسكرية.
ولم يحتفظ السجن بصفته العسكرية بعد انطلاق الثورة في مارس/آذار 2011، إذ تحول لمقر لاحتجاز آلاف المدنيين المتهمين بدعم المعارضة أو “الإرهاب” بحسب الرواية الرسمية. وبشكل شبه يومي، يُنقل إليه معتقلون، وبينهم نساء، ضمن تعتيم شبه كامل على مصيرهم، ويجد الأهل صعوبة بالغة في معرفة مصير أبنائهم، كما يمنعون من زيارتهم إلا في حالات نادرة.
ورغم صعوبة وقساوة سنوات السجن، تمكّن جلال من الحديث للجزيرة نت عن تجربته في ذلك السجن الذي يرى أنه “أسوأ ما يمكن لإنسان أن يمر به”، أملا منه في إيصال صوت وتفاصيل معاناة آلاف المعتقلين هناك.
ويتألف سجن صيدنايا من السجن الأحمر، وهو الأسوأ والأكثر قسوة، ويضم على الأغلب المعتقلين السياسيين والمدنيين المتهمين بدعم “الإرهاب”، والسجن الأبيض المخصص للعسكريين. ويصفه جلال بأنه بناء ثلاثي على شكل علامة مرسيدس، ويتألف كل جزء من جناحين وثلاثة طوابق، كل طابق فيه عشرون غرفة، كما يحتوي على غرف احتجاز منفردة، ويبلغ عدد المحتجزين فيه بشكل تقديري أكثر من ستة آلاف معتقل.
ويصعب على جلال وغيره من المعتقلين هناك توصيف السجن أو العاملين فيه بشكل دقيق، “إذ نمنع منعاً باتاً من مشاهدة أي ملمح من ملامح البناء أو السجانين”.
ويذكر جلال حادثة التقت فيها عيناه -من دون قصد- بعيني السجان من أعلى باب الزنزانة الحديدي، ليغضب السجان ويطلب منه الخروج ويوسعه ضربا لأنه تجرأ على النظر في وجهه.
يوميات السجن
ويبدأ نهار المعتقلين في صيدنايا مع ساعات الفجر الأولى، وأصوات السجانين تأمرهم بألفاظ نابية بالاستيقاظ، يتبعها سؤالهم عن وجود أي جثث داخل المهاجع “حدا عندو فطيسة”؟ ولا يبدو هذا السؤال غريباً، إذ لا يمر يوم دون إخراج جثتين على الأقل من غرف السجناء، حيث يحضر الجنود لنقلها ويدونون أسماء المتوفين الكاملة، ويتكرر ذلك مساء مع احتمال إخراج جثث جديدة، وهو أمر يحدث أيضاً عند قدوم معتقلين جدد إلى السجن، لتعرضهم للتعذيب في الأيام الأولى مما يؤدي إلى حالات وفاة.
“عند قدومي للغرفة جلس رئيس المهجع بجانبي وأصر على حفظ اسمي الثلاثي واسم والدتي ومكان وتاريخ ولادتي، استغربت هذا الطلب لكنني علمت بعد ذلك أن رؤساء المهاجع مكلّفون بحفظ معلومات كافة السجناء كي يتمكنوا من معرفة هويتهم عند وفاتهم دون سابق إنذار”.
بعد التخلص من الجثث يحضر طبيب السجن ويسأل كافة المهاجع عن وجود أي حالات مرضية أو إسعافية، “هل منّا من يتجرأ على الإجابة بنعم حتى لو كان يلفظ أنفاسه الأخيرة؟ فقط عندما نموت يُسمح لنا بالخروج لمثوانا الأخير، وقبل ذلك لن نحلم بالحصول على حبة دواء. أُخرجتْ خلال فترة وجودي في السجن حالات إسعافية معدودة، لم نعرف إلى أين، ولم يعودوا البتة”.
ولعلّ المصير المحزن الذي لقيه بعض الذين تجرؤوا على إظهار مرضهم وضعفهم كان الرادع الأهم لبقية السجناء لإخفاء آلامهم؛ “ففي أحد الأيام سعل أحد المعتقلين بوجود السجان الذي جن جنونه، وطلب من السجين أن يستلقي، وعندما نسمع كلمة “مستلقي” نعلم أنه إعدام فوري في المكان، واستلقى السجين النحيل ذو الجسد الضعيف، وقفز السجان الضخم وضربه على صدره الذي تهشم تماماً، وخرج تاركاً إياه يلفظ أنفاسه الأخيرة أمام أعيننا”.
ذكريات أليمة
تبدو هذه الذكريات أليمة للغاية لجلال الذي يتوقف عن الحديث لبرهة، ثم يعود ليؤكد أنه كان شاهدا على أكثر من خمسين حالة وفاة بهذه الطريقة، “الأمر يعتمد على مزاج السجانين، ويصبون كثيرا جام غضبهم على السجناء ضرباً وتعذيباً، ونعتقد بأن ذلك مرتبط بهزائم عسكرية تُمنى بها قوات النظام بين الحين والآخر، وأيام عيدي الفطر والأضحى كذلك كانت تحمل لنا جولات جديدة من الضرب والتعذيب والإهانات”.
وتعتمد طريقة تقديم الطعام على مزاج السجان، ففي معظم الأحيان يُلقى الطعام على الأرض، أما في حال غضب السجان لسبب ما، فإنه يعمد إلى رمي الطعام على السجناء، سواء كان مكوناً من البرغل أو الحساء أو اللبن أو البيض، أو حتى الشاي، ليخرج بعدها متجهاً للزنزانة التالية.
والطعام بالنسبة لسجناء صيدنايا يعني جمع البرغل أو اللبن أو الحساء الممزوج بالأوساخ من على الأرض أو البطانيات، ليحظى أكثر من ثلاثين سجيناً بكمية لا تكفي ثلاثة أشخاص في الأحوال المعتادة.
ولا يعد وضع المياه أفضل من ذلك بكثير، فجلال يذكر اضطرار السجناء لتقنين استخدامهم المياه كي لا يموتوا من العطش، خاصة بعد وفاة 15 سجيناً بسبب انقطاع المياه أكثر من ثمانية أيام متتالية بشكل تام عن المهاجع.
وغني عن القول إن أي نوع من الصلاة وذكر الله وقراءة القرآن كان من المحرمات داخل السجن، وأي منها يستدعي أشد العقوبات في حال اكتشاف حدوثها من قبل السجانين، و”كانت شتيمة بشار الأسد تستدعي عقوبة أقل من عقوبة الصلاة، كنا نلتزم بالصلاة فقط بأعيننا كما كنا نتلو ونحفظ القرآن بين بعضنا همساً”.
يرى جلال أن رحلته إلى سجن صيدنايا وخروجه منه أشبه بالعودة إلى الحياة من بين براثن الموت. “استُقبلت هناك بالضرب والإهانات والكلام البذيء، وعشت سنة كانت أشبه بالموت البطيء، لم كل هذا الحقد؟ لم لا ينفذون حكم الإعدام فينا فوراً؟ في كل يوم كنت أتمنى العودة إلى أي فرع أمني كنت فيه، حيث فقدت الأمل في الخروج، وكانت الأفرع الأمنية -رغم قسوتها- تشكّل بالنسبة لنا حلماً صعب المنال”.
ويطالب جلال الأمم المتحدة وغيرها من المنظمات الحقوقية والإنسانية أن تقوم بواجبها وتدخل إلى زنزانات صيدنايا، وتعاين وضع السجناء هناك.
ويختم جلال حديثه بالدعاء لسجناء صيدنايا بفرج قريب، “ليدعو لهم الجميع بالراحة، ولا راحة لهم سوى بالإفراج عنهم أو الموت؛ فسجن صيدنايا هو الجحيم بعينه، ولا أتمنى سوى أن يهدم على رؤوس كل من فيه، وأولهم السجناء، لأنهم يموتون كل يوم ألف مرة”.
سلافة جبور- دمشق
المصدر : الجزيرة