لم تحظ بما تستحقه من اهتمام رسالة وجهتها منظمة “أطباء بلا حدود” إلى حكومات أوروبا ومؤسساتها في منتصف الشهر الماضي تحت عنوان “لا تديروا ظهوركم للاجئين”. تعبر هذه الرسالة عن معنى عميق يحمل في طياته تنبيهاً إلى أخطار السياسة التي تقوم على الاعتقاد بأن منع وصول اللاجئين إلى أوروبا يُعد حلاً لأزمة خطيرة مازالت أسبابها مستمرة.
يبدو القادة الأوروبيون في انتهاجهم هذه السياسة كمن يحاولون بناء ستار حديدي حول بلادهم. وإذا كان الأمر كذلك، فهو يعني عدم استيعاب دروس تجربة الستار الحديدي الذي ضُرب حول دول شرق أوروبا ووسطها عقب الحرب العالمية الثانية، وكان إحدى أهم نقاط الضعف في المعسكر “الاشتراكي” السابق. ظن من فرضوا ذلك الستار أنه يحمي “النموذج” الذي سعوا إلى نشره في العالم، فإذا به مصدر تهديد كبير دفعوا ثمنه غالياً.
لم يكن حسن استثمار الغرب بقيادة الولايات المتحدة معاناة البشر وراء الستار الحديدي “الاشتراكي”، وإغرائهم بنمط حياة أفضل، هو الذي أدى إلى انهيار النموذج الذي أُقيم ذلك الستار لحمايته. فقد حمل الستار الحديدي “الاشتراكي” في ثناياه بذور الانهيار الكبير الذي حدث بعد نحو أربعة عقود على إقامته. فإلى جانب المعاناة التي عاشها من احتُجزوا وراءه وسُلبوا حقوقهم في السفر والتنقل بحرية، كان وجوده مناقضاً لبعض أهم المُثُل الإنسانية العليا التي بشَّر بها النموذج “الاشتراكي” نفسه في أصوله النظرية التي تبدو براَّقة على الورق.
لكن بعض من تباروا في تبيان خطايا ذلك الستار الحديدي، حين خاضوا حرباً منظَّمة ضد أصحابه، يؤيدون ضمناً إنتاجه الآن في صورة مختلفة لمنع تدفق لاجئين بؤساء يبحثون عن مأوى وحماية.
تبخرت حقوق الإنسان التي تمثل الركن الأهم في النموذج الغربي أمام طوفان اللاجئين، رغم أن أصحابه حافظوا عليها في أشد الظروف صعوبة، وفي مواجهة أخطر التهديدات النازية والفاشية ثم الشيوعية.
وصل الحرص على هذه الحقوق مستوى جعل أي انتهاك لأبسطها جريمة لا تسقط بالتقادم. وبولغ في توسيع نطاق هذه الحقوق، فأصبحت تشمل الدفاع عن المثلية الجنسية وتقنينها في بعض الدول.
غير أن هذا الوعي بمركزية حقوق الإنسان في النموذج الغربي تراجع عندما ازداد تدفق اللاجئين. أصاب الفزع عواصم غربية تبلورت فيها القيم الحقوقية الإنسانية على مدى قرون عبر عصور النهضة والتنوير والتصنيع والتحديث. شجعت هذه العواصم انتهاك أبسط حقوق اللاجئين الذين وقفوا على أبواب أوروبا مستغيثين بها. لم تصمد محاولة المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل التخفيف من غلواء هذا الانتهاك لأكثر من أسابيع قليلة. وسرعان ما أُغلقت أبواب ألمانيا التي كانت فد فُتحت جزئياً أمام بعضهم.
أضعف الفزع من تدفق اللاجئين، وربطه تعسفياً بالإرهاب، قدرة ساسة أوروبيين يؤمنون بحقوق الإنسان على إدراك أن انتهاك حق اللاجئ في إيواء مؤقت هو الذي يدعم القوى اليمينية المتطرفة لأنه يمثَّل تراجعاً أمامها على نحو يُقوِّي موقفها ويتيح لها قدرة أكبر على تسويقه انتخابياً.
والحال أنه حق لكل دولة أن تسعى لحماية أمنها بالطرق التي تراها مناسبة لها. غير أن هذه ليست القضية المحورية في حالة دول طالما وضعت حقوق الإنسان في قلب منظومتها القيمية ونموذجها السياسي الاجتماعي. لذلك فالسؤال الآن ليس عن حقها في إقامة ستار حديدي جديد في وجه لاجئين صدّقوا ما يتضمنه خطابها السياسي عن تلك الحقوق، بل عن التهديد الذي قد يصيب منظومتها القيمية نتيجة هذا الجدار.
اختار الأوروبيون ما حسبوه حماية لأمنهم، واستهانوا بأهمية حماية قيمهم. وهذا اختيار غير رشيد لأن لحماية الأمن وسائل عدة أسوأها، بل أكثرها خطراً، التخلي عن القيم التي تمثل ركناً أصيلاً في بنية الدولة وشرعيتها. وقد ثبت بين نهاية أربعينيات القرن الماضي وثمانينياته أن التحصن وراء ستار حديدي قد يؤجل الخطر، لكنه يجعله أقوى وأشد.
الاتحاد