من يدقق في ما يفعله الإيرانيون ويتابع خطوط تمددهم العسكري، إنْ في سوريا وإنْ في العراق وإنْ في اليمن ولبنان، يجد أنه مجبرٌ على العودة إلى الملفات القديمة وتذكير كل من يعنيه الأمر بأنَّ كبار القادة الإسرائيليين، وعلى رأسهم ديفيد بن غوريون، كانوا قد اتفقوا مبكرا، حتى قبل قيام دولتهم، على أن ضمان أمن هذه الدولة واستمرار بقائها يقتضي تقسيم المنطقة العربية المحيطة بها والمتاخمة إليها على أساس مذهبي وإقامة «كومنولث» ديني – طائفي، على غرار «الكومنولث» البريطاني تكون لإسرائيل فيه مكانة بريطانيا العظمى في هذا «الكومنولث» الأخير.
كان ديفيد بن غوريون يرى أن أمن إسرائيل «الاستراتيجي»، على المدى البعيد، يقتضي تحالفا متينا مع الغرب، وبخاصة فرنسا وبريطانيا والولايات المتحدة، ويتطلب تسليحا متفوقا على كل دول هذه المنطقة مجتمعة، كما يتطلب امتلاك القنبلة النووية وإقامة «أشرطة» أرضية عازلة على الحدود مع مصر ومع الأردن ومع سوريا ومع لبنان ثم وفوق هذا كله ضرورة تأمين مصادر المياه، مياه بحيرة طبرية تحديدا، والاقتراب من قناة السويس إنْ ليس بالإمكان الوصول إليها.
لكن موشيه شاريت، الذي كان بعض العرب يسمونه موس شرتوك تحببا والذي أصبح وزير خارجية إسرائيل ثم رئيس وزراء لها، خالف ديفيد بن غوريون الرأي وأكد أن أهم ضمان «استراتيجي» لأمن الدولة الإسرائيلية (الوليدة) هو ألا تكون هناك وحدة عربية بأي شكل من الأشكال وهو أن تبقى الدول المحيطة والمتاخمة متصارعة ومختلفة وأن يتم تقسيمها على أسس مذهبية وقومية – عرقية وبحيث تلتقي في إطار «كومنولث» ديني – طائفي – إثْني تكون للدولة «العبرية» فيه مكانة بريطانيا العظمى في «الكومنولث» البريطاني المعروف.
ولهذا ورغم مرور كل هذه الفترة الطويلة، منذ إنشاء الدولة الإسرائيلية في عام 1948 وتوسعها باحتلال الضفة الغربية كلها ومعها قطاع غزة في عام 1967، فإن ما نراه الآن من تمدد إيراني في المنطقة وبخاصة في العراق وسوريا وإعطاء هذا التمدد طابع التوسع المذهبي الشيعي يجعلنا نتذكر نصيحة موشيه شاريت آنفة الذكر تلك ويجعلنا نضع في اعتبارنا أن الإيرانيين ينفذون الآن الخطة الاستراتيجية التي فشلت إسرائيل، حتى الآن، في تنفيذها مع أنها احتلت لبنان في عام 1982 وسعت لتقسيمه وإقامة «كانتونات» طائفية فيه.. «كانتون» مسيحي – ماروني و«كانتون» شيعي في الجنوب ومنطقة البقاع و«كانتون» سني في غربي بيروت وصيدا وطرابلس وعكار على الحدود اللبنانية – السورية.
لقد بدأ الإيرانيون بتنفيذ هذا المخطط، الذي شهد تطورا هائلا بدءا بالغزو الأميركي للعراق في عام 2003 والذي يبدو أنه الآن في مراحله الأخيرة، في بدايات ثمانينات القرن الماضي حيث تم إنشاء حزب الله اللبناني وجرى تحويله، برعاية الإمام الخميني سابقا وعلي خامنئي لاحقا، إلى دولة داخل الدولة اللبنانية وإلى قوة ضاربة تشارك الآن قوات الحرس الثوري الإيراني ونحو أكثر من أربعين تشكيلا طائفيا القتال في العراق وفي سوريا وربما في اليمن الذي بات في حكم المؤكد أنه عاد إلى التشطير الطائفي بين الزيديين والشوافع وكما كان عليه الوضع قبل وحدة عام 1990 التي ثبت أنها كانت «زواج متعة» سياسيا وأنها كانت بالنسبة للمسؤولين الجنوبيين بمثابة هروب من المرِّ إلى الأمَر منه
إن تتبع محاور القتال الآن في سوريا، على وجه التحديد، يثبت بما لا يدع مجالا للشك بأن هدف إيران النهائي وبالطبع هدف نظام بشار الأسد وبعض المرجعيات الشيعية وإلى جانب هؤلاء جميعا حزب الله اللبناني وحزب الله السوري والعراقي هو إقامة دولة مذهبية تربط الجنوب العراقي بالمناطق العلوية في سوريا وبالمناطق الشيعية في لبنان وهذا هو ما يفسر خطوة إلحاق تشكيلات «العائلة الشيعية»: أي الطائفة النصيرية والزيديين والإسماعيليين بالمذهب الجعفري الإثني عشري وبالولي الفقيه وبالمرجعية العليا في طهران و«قُم»
لقد كان هناك إصرار، ولا يزال، على ربط المناطق الشيعية اللبنانية التي يسيطر عليها حزب الله قتاليا بدمشق امتدادا حتى حلب: «نبل والزهراء» تحديدا وحتى اللاذقية وجبلة وبانياس وطرطوس.. والقرداحة بالطبع مرورا بحمص ووصولا إلى بعض مناطق إدلب ومنطقة «كسب» المتاخمة لمدينة إنطاكيا التاريخية، حيث بعد ذلك لواء الإسكندرون الذي انتزعه الأتراك من سوريا، وفقا لمؤامرة دولية اشترك فيها البريطانيون والفرنسيون في عام 1939 والذي يشكل هو والمناطق المحيطة به امتدادا مذهبيا للمناطق العلوية السورية.
والمشكلة ورغم أنه لا شك في أن هذه المسألة مؤلمة ومرعبة أننا نتحدث عن قضية ليست جديدة ولا مستجدة هي قضية الطائفية، لكن ما العمل يا ترى ونحن نرى أن إيران تقوم بكل هذا الفرز الطائفي البغيض في العراق وفي سوريا وفي لبنان وعندما نعرف أن السيطرة الجغرافية التي تقوم بها الميليشيات المذهبية المستوردة حتى من الصين وباكستان والهند وأفغانستان والتي يقوم بها حراس الثورة وباقي ما تبقى من الجيش النظامي السوري هي سيطرة طائفية واضحة وهي ترسم، لدى إمعان النظر والعقل فيها، حدودا لا يمكن إلا اعتبار أنها حدود دولة مذهبية
فهل أن هذا يا ترى سيحصل فعلا وهل أن ما بقى مرفوضا منذ استقلال سوريا من قبل القامات الوطنية العلوية المرتفعة وفي مقدمتها المجاهد العروبي الكبير صالح العلي أصبح مطلوبا ومقبولا في هذا الزمن الرديء..؟!
حسب «العربية – نت» كان عدد من وجهاء الطائفة العلوية السورية قد رفعوا مذكرة عشية استقلال سوريا إلى رئيس الحكومة الفرنسية ليون بلوم جاء فيها: «إن الشعب العلوي الذي حافظ على استقلاله سنة فسنة بكثير من الغيرة والتضحيات الكبيرة في النفوس هو شعب يختلف بمعتقداته الدينية وعاداته وتاريخه عن الشعب المسلم السني.. وإن الشعب العلوي يرفض أن يُلحق بسوريا المسلمة.. إن روح الحقد والتعصب التي غرزت جذورها في صدور المسلمين العرب نحو كل ما هو غير مسلم هي روح يغذيها الدين الإسلامي على الدوام!! لذلك فإن الأقليات في سوريا تصبح في حال إلغاء الانتداب معرضة لخطر الموت والفناء» وهكذا فإن هذه المذكرة تنتهي إلى القول: «ولا نظن أن الحكومة الفرنسية والحزب الاشتراكي الفرنسي يقبلان بأن يمنح السوريون استقلالا يكون معناه عند تطبيقه استعباد الشعب العلوي وتعريض الأقليات لخطر الموت والفناء.. فالشعب العلوي يستصرخ الحكومة الفرنسية ضمانا لحريته واستقلاله ضمن نطاق محيطه الصغير»
وهكذا وفي النهاية فإنه يبقى أنه لا بد من التساؤل: هل يا ترى سيبرز في الطائفة العلوية الكريمة رجال عروبيون من أمثال صالح العلي ليحبطوا ما نلمسه الآن من توجهات مذهبية انقسامية من المتوقع أن تتجسد إلى حقائق على الأرض إذا شعر الإيرانيون بأن احتلالهم لهذا البلد العربي غير دائم وأن نظام بشار الأسد زائل لا محالة؟!.
(نقلاً عن صحيفة الشرق الاوسط)