مشهد السيطرة الإيرانية على لبنان لا يعكس سوى انحطاط عام وعميق على كافة المستويات، واستحالة استثمار مفاعيل ما تروّج له إيران على أنه انتصار ميداني في سوريا.
لا تحترم الآلة العسكرية الروسية التي نجحت في منع سقوط الأسد الدماء الإيرانية واللبنانية التي سفكت في الدفاع عنه. أعلن وزير الخارجية الروسي سيرجي لافروف صراحة أن كل هذه الدماء إنما كانت رخيصة وبلا وزن، لأنها لم تكن قادرة على منع سقوط العاصمة دمشق في يد المعارضة لولا التدخل الروسي الحاسم. من يحسم هو من يقرر. يوسّع هذا الكلام دائرة المهزومين الذين لا يحق لهم سوى التوقيع غير المشروط على وثيقة الاستسلام، ويضم إلى القائمة التي تشمل كل فصائل المعارضة، إيران، وحزب الله والميليشيات الشيعية.
خلق التدخل الروسي في الصيغة التي عبر عنها لافروف شبكة متوازنة من المهزومين، مع فارق أساسي يكمن في أن هزيمة إيران يمكن أن تخرجها من سوريا خالية الوفاض، في حين أن هزيمة المعارضة السورية لا تعني خروجها من سوريا، بل ربما تتضمن بعدا مفيدا، يكمن في ضرورة خروج غير السوريين منها وعودتهم إلى بلادهم. التسوية المنتظرة ستكون مع المعارضة السورية في النهاية، وهذه المعارضة حتى لو كانت مهزومة، فإن دورها مطلوب وضروري في أي مشروع سلام قادم، في حين تقضي التسويات على الحضور الإيراني في سوريا وتلغيه.
يمكن توصيف المشهد بالقول إن وضع إيران جعل منها طرفا لا يمكن أن تنجح التسويات إلا على حساب حضوره، في حين أن المعارضة السورية هي طرف لا يمكن أن تنجح التسويات إلا من خلاله. كانت إشارة وزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف من المنتدى الاقتصادي في دافوس إلى أثر التفاهم السعودي الإيراني في إنهاء الفراغ الرئاسي في لبنان لافتة، وخصوصا أن هذا التصريح جاء في سياق الإعلان عن رغبة بلاده في التفاهم مع السعودية حول سوريا.
تراكم إشارات ظريف مسار انفتاح إيراني على السعودية، ويحرص الرئيس الإيراني روحاني على تفعيله في هذه المرحلة دون أن يلقى استجابة سعودية. تردّ السعودية على مبادرات الانفتاح الإيرانية بالتأكيد على أن إيران تشكل الأزمة الكبرى في المنطقة والعنوان الأساسي للأزمات والتوتر، وتعبر عن عدم رغبتها في فتح أي حوار معها. وكانت إيران قد اعتبرت عهد باراك أوباما عهدا ذهبيا لها، نشأ فيه تحالف بينها وبين أميركا ضد السنة في المنطقة تحت عنوان محاربة الإرهاب، ولكن إيران حاولت أن تتعامل مع التحالف الظرفي الأميركي معها، وكأن الجيش الأميركي أصبح فصيلا في الحرس الثوري كحزب الله.
نجح هذا الحلف في إيقاع هزيمة بالسنة في المنطقة مباشرة أو عبر التغطية الأميركية للتدخل الروسي في سوريا، ولكن إيران لا تظهر قدرة على احتمال مفاعيل ما تعتبره نصرا، ولا في بلورته سياسيا ولا اقتصاديا. مناطق النفوذ الإيراني في العراق وفي لبنان هي مناطق مأزومة وتكاد تصل إلى مرحلة انعدام القدرة على العيش. إيران لا تراعي مصالح من تستعملهم كواجهة لنفوذها، ولا تؤمن لهم أبسط شروط العيش، بل تترك لهم الثورة والأيديولوجيا.
تكفي إطلالة سريعة على مشهد الضاحية الجنوبية لمدينة بيروت التي تعتبر الحاضنة الأساسية لجمهور إيران اللبناني والتي تختنق بالنفايات، ليتأكد المشاهد من أن السيطرة الإيرانية على لبنان لا تنعكس إيجابا على محازبيها اللبنانيين، ولكنها مجرد مدخل يراد له أن يترجم رخاء واستثمارات في طهران. يعلم الجميع أن الغواية الأيديولوجية لا تصمد أمام جبال النفايات المتراكمة، ولا أمام الفقر وانعدام فرص العمل اللذين يعاني منهما الجمهور الشيعي بالطريقة نفسها التي يعاني منهما جل اللبنانيين.
تاليا فإن مشهد السيطرة الإيرانية المؤكدة على لبنان لا يعكس سوى انحطاط عام وعميق على كافة المستويات، واستحالة استثمار مفاعيل ما تروّج له إيران على أنه انتصار ميداني في سوريا في خلق مشهد بلد قابل للعيش. تسيطر إيران على موت لبنان ولا تستطيع منحه الحياة، ولا في جعل سيطرتها عليه قابلة للتسويق حتى في أوساط جمهورها، الذي ينتظر مفاعيل ما سيفرزه طرد روسيا لحزب الله من سوريا من انفجار حقائق لا يمكن تجاهلها ولا طمسها.
لا ينتج الواقع اللبناني تجاه السيطرة الإيرانية سوى مشهد احتقار عام ومكبوت، فإيران ليست نموذجا يحتذى في أي مجال. ربما تكون المقارنات الساخرة التي يقوم بها البعض بين السيطرة الإيرانية والانتداب الفرنسي كافية للفت الانتباه إلى انتساب جل المؤسسات الفاعلة في البلد إلى مرحلة الانتداب، في حين أن إيران تكنّ عداء حادا لمنطق المؤسسات. دفعت هذه المقارنة الساخرة والواقعية إلى جعل بعض اللبنانيين يتمنون عودة الانتداب الفرنسي.
تجدر الإشارة إلى أن السعودية عبرت على لسان وزير خارجيتها عادل الجبير عن ارتياحها لوصول ترامب إلى سدة الرئاسة الأميركية، وعن استعدادها للشروع في التعاون الإيجابي معه. وكان ترامب قد اختار لتولي حقيبة الدفاع جيمس ماتيس المعروف بمواقفه المغالية في التشدد ضد إيران وبأفكاره الداعية إلى إقامة نظام صاروخي مشترك مع حلفاء أميركا في الخليج.
الأسد نفسه يحتقر إيران، فقد أعلن مؤخرا أن الهدف من محادثات أستانة التي ستعقد الأسبوع المقبل هو التوصل إلى وقف إطلاق النار. يتناقض هذا الموقف مع طموحات إيران، في حين أنه يتلاقى وينسجم تماما مع الموقف الروسي ومع الموقف الأميركي الذي دفع بإيران إلى الاحتجاج على مشاركتها في هذه المحادثات. الجميع يحتقرون إيران. تحتقر روسيا إيران، وكذلك تفعل أميركا التي تقوم سياسة رئيسها الجديد على تصفية آثار مرحلة أوباما، وكذلك يفعل الأسد. السعودية بدورها تمارس احتقارا باردا لإيران، وتنتظر بصمت ظهور ردة الفعل اللبنانية على التحكم الإيراني بالبلد، والذي يصر على القضاء على كل مقومات العيش من اقتصاد وسياسة وموسيقى.
العرب شادي علاء الدين