على ضوء تمركز الإمبراطور الأميركي ترامب سيحتدم اختبار القوة في آسيا والمحيط الهادي بالإضافة إلى التناحر الاقتصادي، وسيحكم ذلك المحصلة النهائية لتطور التنين الصيني.
أولا”، كان الرئيس الصيني شي جين بينغ يلقي خطاب الافتتاح في اليوم الأول للمنتدى الاقتصادي العالمي في دافوس، علما أنه أول رئيس صيني يشارك في هذا المنتدى منذ تأسيسه عام 1971.
في مرافعته للدفاع عن العولمة ومكاسبها، حاول جين بينغ إخافة العالم من سياسات ترامب الانعزالية ومن الحمائية. وعلى خلفية الحرب التجارية الأميركية – الصينية المتوقعة، يبرز احتمال تشكيل النظام الدولي الجديد واحتمال احتدام التنافس على زعامته، ما يهدد قيادة واشنطن المكتسبة منذ نهاية الحرب العالمية الثانية.
في موازاة تمركز الرئيس الأميركي الجديد ومن دون مقدمات أو مواربة، تجرأت الصين وأعربت للمرة الأولى عن استعدادها لتبوؤ مسؤولية الزعامة العالمية. ففي مداخلة له على هامش منتدى دافوس، قال المدير العام لإدارة الاقتصاد الدولي في وزارة الخارجية الصينية تشانغ جون “إن بلاده لا ترغب في زعامة العالم، لكنها قد تضطر إلى لعب هذا الدور إذا تراجع الآخرون”.
نحن أمام نقلة نوعية في التفكير الاستراتيجي الصيني، ففي التاريخ القديم فضل الصينيون البقاء داخل حدود دولتهم. واعتقدوا أن المملكة الوسطى، وهو الاسم القديم للصين، والذي يعني حرفيا مركز العالم، هو أعلى أشكال الحضارة.
لكن في فترة التوسع الغربي في العالم، لم يعد إحكام السيطرة على الداخل الشاسع كافيا، وبدلا من الانطلاق نحو العالم الأوسع، اقتصر التوسع الصيني على القارة الآسيوية وخصوصا على المحيط الجيوسياسي القريب.
في حقبتنا المعاصرة، فرضت الصين نفسها رقما صعبا في زمن العولمة الشاملة وفي مرحلة الاضطراب الاستراتيجي في النظام الدولي بعد حقبة الأحادية الأميركية. وبفضل آلية الصعود السلمي وغيرها من خصائص القوة الناعمة تمكنت الصين منذ السبعينات من القرن الماضي وحتى العقد الأول من هذا القرن من تحقيق انتقال تدريجي من دور القوة الصامتة، إلى دور القوة المؤثرة بعد نجاح ارتباطها بالاقتصاد العالمي.
ومع الرئيس الحالي شي جين بينغ أسرعت الصين الخطى لكي تنافس الولايات المتحدة الأميركية على موقع أول قوة اقتصادية عالمية في موازاة تطوير قوتها العسكرية وأدائها السياسي من بحور الصين وشبه الجزيرة الكورية إلى أفريقيا وطريق الحرير الجديدة.
للوهلة الأولى يبدو الإمبراطور الأصفر الرئيس شي جين بينغ واثقا من القدرة على تحقيق “القفزة العظيمة للأمام” في الاتجاه الصحيح، وليس كما فعل الإمبراطور الأحمر ماو تسي تونغ في الستينات من القرن العشرين. ولذا تقدم بلاده اليوم نفسها ليس كقوة عظمى فحسب، بل زعيمة أو شريكة في زعامة العالم.
في تبرير لهذا التوجه الجديد، أكد تشانغ جون أن بلاده “مستعدة إذا طلب منها أن تتزعم العالم فإنها ستتحمل مسؤولياتها”، وأسهب في التوضيح، مبينا أن “الصين ليست لديها نية للسعي إلى زعامة العالم. لكن إذا قيل إن الصين تريد لعب دور قيادي في العالم فسأقول إنها ليست هي من تسعى لتكون في المقدمة، لكن ذلك يمكن أن يحصل في حال تراجع اللاعبين الرئيسيين وتركهم المجال مفتوحا أمام الصين”.
في هذا السياق، تسعى بكين لإبراز عناصر قوتها والتباهي بأن “الصين ثاني أكبر اقتصاد في العالم ويمكن للآخرين أيضا الاعتماد عليها في نموهم الاقتصادي”. هكذا تروّج البلاد التي لا يزال يحكمها الحزب الشيوعي للتبادلية الرأسمالية الشمولية والتعاون الدولي، في وجه محاولة الولايات المتحدة للانكفاء الانعزالي أو للخروج من قطار العولمة التي أسستها، أو تطويع هذه العولمة وتحويلها لضمان بقاء الغلبة الأميركية والرخاء الاقتصادي الأميركي.
ويأتي رد الصين بالغمز على الذين هيمنوا على النظام الاقتصادي العالمي مديدا وذلك بالتمني بأن “تستمر الولايات المتحدة والدول الغربية الأخرى في الإسهام بشكل أكبر في التعافي الاقتصادي العالمي”. مع “التشكيك في قدرة ترامب على تحقيق أهدافه للنمو الاقتصادي إذا دخل في نزاعات تجارية”.
لكن هذه النقلة الصينية المتفائلة تبقى محفوفة بالمخاطر وغير مضمونة النجاح في عالم المصالح المتحركة وجدار ترامب الذي لا يمثل صدا للمهاجرين وحسب، بل سعيا لصد التمدد الاقتصادي الصيني. وعندما نعلم مدى تشابك الاقتصاديْن الأميركي والصيني وردة فعل بورصة وول ستريت المهللة لسياسات الرئيس الأميركي الجديد، يتوجب انتظار حيز من الزمن لمعرفة انعكاسات اختبار القوة على السوق الصينية الداخلية وسعر صرف اليوان (في 2015 تجاوزت بكين أزمة في سوق القطع كادت تثير أزمة نقدية محدودة).
لا يمكن إغفال عناصر الضعف في إمبراطورية الوسط الناهضة، فمن ناحية التركيبة السكانية أخذت الصين تشيخ ويزداد تحرك سكانها نحو المدن مما سينعكس على توازنها الاقتصادي، أما الحاجة إلى المواد الأولية والنفط فستزيد التحديات، ناهيك عن تعاظم مطالب الأقليات والقوميات في تيبيت الدالاي لاما (سقف العالم) أو الإيغور (المسلمين) وغيرها. ولا تمكن إدارة البلاد الشاسعة بشكل سلطوي حصري دون الحد الأدنى من الحريات السياسية والدينية.
لم تبرز الصين عضلاتها حاليا إلا في بحر الصين الجنوبي وحوله، ومنذ مشاركتها في الحرب الكورية ضد واشنطن في خمسينات القرن الماضي إلى دعمها فيتنام وكمبوديا في السبعينات، ابتعدت الصين عن سباق التسلح. لكنها في العقد الأخير ضاعفت من إمكانياتها، وبالرغم من أن ميزانية الصين في الإنفاق العسكري (200 مليار دولار في 2016) توازي ثلث الميزانية الأميركية، إلا أنها تتجه لتكون القوة العسكرية الثانية في العالم خاصة مع تطوير أسطولها البحري وقدراتها الباليستية وتحديث جيوشها.
على ضوء تمركز الإمبراطور الأميركي ترامب سيحتدم اختبار القوة في آسيا والمحيط الهادي بالإضافة إلى التناحر الاقتصادي، وسيحكم ذلك المحصلة النهائية لتطور التنين الصيني.
وسنرى إذا كان يحق للإمبراطور الأصفر شي جين بينغ أن يتباهى كثيرا بمعادلة القوة الثلاثية، من حيث الجمع ما بين بناء القوة العسكرية القادرة، والسلطة الشخصية شبه المطلقة، والاقتصاد المزدهر.
العرب د. خطار أبودياب