مجلة عين المدينة : سمهر الخالد
يعمل الكثير من أهالي ريف دير الزور اليوم بزراعة موسم القمح البعليّ بعد استصدار تراخيص زراعة أراضي المشاع من تنظيم الدولة الإسلامية، وذلك بعد موسمين جيدين استفاد منهما فقراء ومتوسطو الحال في غالبية الريف، إلى جانب وجهاء وأثرياء. وقد عمل الأهالي على تنظيم زراعة هذه الأراضي جماعياً بشكلٍ ذاتيٍّ دون مشاكل تقريباً، لكن مع الكثير من المعوقات القائمة والعداءات المضمرة التي قد تنفجر في أيّ وقت.
أراضي الدولة
باستثناء الأراضي المملوكة للأشخاص، تعود معظم الأراضي في دير الزور للدولة، وتضم جميع الأراضي خارج المخططات التنظيمية للبلديات. وقد جهد الكثير من أبناء المحافظة لإشغال أجزاء من هذه الأراضي واستثمارها لتملكها لاحقاً، الأمر الذي أقرّه القانون ذاته، جرياً على قانون أراضي الخراج. لتبقى «العقارات المتروكة المحمية» خارج هذه الأراضي، وكانت تدير استثمارها وتحميها مؤسّساتٌ حكومية، كمصلحتي البادية والحراج التابعتين لوزارة الزراعة، بتضمينها لمربّي الحيوانات لرعيها مرّةً كل سنتين مع مراعاة حمولةٍ رعويةٍ معينةٍ حفاظاً على بنية التربة؛ بحسب مهندسٍ زراعيٍّ عمل سابقاً في مديرية الزراعة. وقد لاحقت الدولة مستزرعي تلك الأراضي وقتها بتحرير مخالفات تعدٍّ على أملاك الدولة وبتخريب المحصول المزروع، وذلك بإرسال حملاتٍ تضمّ أكثر من عشرة جراراتٍ لقلب التربة المزروعة.
لكن رخَص الآبار التي كانت تمنح للوجهاء والشيوخ والأثرياء والمسؤولين، وتسمح لهم باستثمار أراضٍ واسعة، إلى جانب غضّ الطرف عن بعض الأفخاذ القوية أثناء زراعة أراضيها المملوكة بحسب العرف؛ جعلا «حماية الدولة الأراضي» تُفهم على أنها محاصرةٌ للنزاعات، خاصةً أنها جاءت بعد نزاعاتٍ عشائريةٍ مريرةٍ على مناطق الرعي والنفوذ امتدت لعشرات السنين في القرن الماضي، أشهرها بين شمّر في الحسكة والعكيدات في دير الزور.
في العرف العشائريّ
من حيث المبدأ، تدخل جميع أراضي الدولة المستثمرة من قبل الأهالي تحت مسمى «الگضْبات»، بمعنى «القبضات». وبموجب هذا العرف فإن كلّ من يحفر بئراً في أيّ أرض، أو يزرعها موسماً بعلياً، أو يضع نقطة علامٍ فيها، تصبح ملكه (گضبة ذراع). وبحسب أحد شيوخ عشائر دير الزور، تتوزع أراضي المحافظة على جانبي نهر الفرات كالآتي:
- گضبات بالتلاصق: وهي أراضٍ بعرض من 5-10 كيلومترات. كان الأهالي يدفعون إيجاراً سنوياً بسيطاً للدولة لقاء استثمارها. وقد تحولت مع الزمن إلى ملكٍ جماعيٍّ يسمى «الواجهات»، ثم تحول قسمٌ منها إلى ملكٍ شخصيٍّ بعد رفع قضية إزالة شيوع ضد الدولة. تباع أراضي الواجهات وتشترى عن طريق «عقد العرب» الذي يكفل فيه البائع للمشتري عدم تعرّض أقاربه له. وقد امتد إليها البناء منذ أعوامٍ نتيجة النمو السكانيّ. وتقع في بعضها آبار النفط. وكان عدم وضوح ملكيتها سبباً في نزاعاتٍ دمويةٍ كثيرةٍ بين الأقرباء والجيران.
- «السوحات»: تلي الواجهات من جهة البادية، بعرض 10-15 كيلومتراً. يجري عليها ما يجري على الواجهات، لكنها أقل استثماراً.
- يليها ما يسمى «الگضبات»: وتعدّ مناطق نفوذٍ للعشائر، فتمتد گضبات العكيدات من شرق الخابور حتى حدود العراق، وشمالاً إلى الحدود الإدارية للحسكة، وللبكارة من غرب الخابور حتى الرقة، وفي جنوب النهر تنحصر الگضبات بين حقل الورد والبوكمال والصحراء التدمرية، وتنوس بين المشاهدة والبدو والعكيدات، وإلى الغرب من طريق الشام أراضي البوسرايا. وقد تتخلل الگضبات مناطق لجماعاتٍ من خارج العشيرة المسيطرة عليها بالعرف.
دأبت الدولة السورية في السابق على حماية الگضبات، إلى جانب كل أرضٍ تشير إليها الصحيفة العقارية بـ«لم يجر عليها أعمال التحديد والتحرير» (أي فرز الأراضي الذي جرى في خمسينيات القرن الفائت)، بحسب موظفٍ سابقٍ في المصالح العقارية. ويعتقد الأهالي أن تلك الأراضي هي الأخصب خارج الزور (وادي النهر)، حتى أن منطقة «الروضة» على الحدود العراقية تأخذ صورة الأرض الأسطورية في المخيال الشعبيّ.
التنظيم الجماعيّ الأهليّ للاستثمار
لم يُقم تنظيم الدولة أيّ اعتبارٍ للكثير من الأمور التي كانت تراعى سابقاً، كالحفاظ على التربة أو درء التنازع القبليّ بسبب محاولات الاستيلاء على الأرض. وفي ظل انعدام الكثير من مصادر الدخل، كالوظائف الحكومية والعمل في النفط، وتوقف الكثير من الدعم الخارجيّ؛ عاد الكثير من السكان إلى الزراعة. لكن الضغط السكانيّ، وارتفاع تكاليف الزراعة المروية، ورغبة الكثيرين في تمييز أراضٍ خاصّةٍ بهم وحيازة گضباتٍ جديدة؛ دفعت الأهالي الأكثر فقراً إلى التوجه إلى الزراعة البعلية في الواجهات والسوحات، والگضبات خاصة، بأعدادٍ كبيرة. يقول أحد الفلاحين إن زراعة تسعة دوانم مروية (الدونم 1000 متر مربع) في الزور كلفته 143 ألف ليرةٍ سورية، إذ وصل سعر كيس السماد الروسيّ إلى 60 ألفاً، ولم يسدّد المحصول التكلفة. وبالرغم من أن الأهالي زرعوا موسمين سابقين بتكاليف بسيطة، لكنهم يبدون غير مقتنعين بالقسمة القديمة للأراضي، إذ يشرح أحد الشبان الذين نظموا زراعة الگضبات، وهو مقاتلٌ سابقٌ في الجيش الحرّ، أن بعض الافخاذ الصغيرة، التي لا يتجاوز عدد أفرادها 200 شخص، تملك أكثر من ألف دونم، وبعض الأفخاذ الكبيرة، التي تصل إلى 1500 شخص، تملك 200 دونم. فالتقسيم العرفيّ القديم الذي استقرّ في ظلّ النظام كان تحت ضغط السلطة والتهديد بالسلاح ضمن العشيرة أو الفخذ الواحد.
يتسلم أمور تنظيم الزراعة وتسجيل تكاليفها متعلمٌ من الفخذ، أو أحد العاملين في الشأن العام. وبمساعدة العارفين يجمع من أقاربه مبالغ أوليةً لبدء العمل، تتجاوز الـ5 آلاف ليرةٍ من كلّ شخصٍ متزوجٍ ولديه أولاد. ويغطي هذا المبلغ تكلفة بذار 10 دوانم (مطش شوال) يدفعها أفراد الفخذ المعدمون بذاراً. وغالباً ما يعبّر الفخذ اليوم عن ما يسمّى «الگوم»، أي العائلة الكبيرة التي تتصل بأحد الجدود القريبين. ويندب أفراده عنهم شابين من كل أسرةٍ للعمل في الأرض، يحملون معهم احتياجاتهم وسلاحهم الفرديّ تحسباً لأيّ نزاعٍ مع الجوار (مسدساتٌ وبنادق صيدٍ يسكت عنها تنظيم الدولة في الغالب). وفي بعض الأحيان تدفع الأجور للعاملين في الأرض ولنواطيرها، وقد يتكفل بعض الوجهاء بتكاليف الزراعة إلى حين جمعها مراعاةً للأوضاع الصعبة التي يمرّ بها الكثيرون.
المحصول
يقول مراقبٌ فنيٌّ سابقٌ من ريف العشارة، شارك في المحصول الماضي، إن مجموع ما دفعه كلّ فردٍ من أقربائه وصل إلى 37 ألف ليرة، بينما كانت حصته 900 كغ حنطة تقريباً، وصل سعرها إلى 144 ألفاً (سعر الكيلو 160)، بالإضافة إلى طن تبن، وقد ضمّنوا بقايا الزرع للغنامة بمبلغ 600 ألف ليرة. على أن المحصول كان للاكتفاء الذاتيّ فقط، الأمر الذي أكده أكثر من شخص. وقد ذكر المقاتل السابق نسباً قريبةً حول المحصول بأرقامٍ مختلفة. وفي المقابل يستثمر بعض الأثرياء أراضٍ يبيعون محصولها للماكف كعلفٍ للحيوانات.
موقف تنظيم الدولة
يمنح ديوان الزراعة التابع للتنظيم رخَصاً لزراعة أراضي الدولة لقاء 300 ليرةٍ عن كل دونمٍ في الموسم، ويتقاضى ديوان الزكاة في نهايته العُشر من الحنطة، ليبيعها للتجار. ولا يتقيد الأهالي غالباً بالمساحات المرخّصة، إذ يستثمر الكثيرون عشرة أضعاف الأرض التي رخّصوها، بحسب أكثر من شخصٍ في الريف. ولا يكترث التنظيم للأمر إلا في حالات الأراضي المتنازع عليها (كما بين المشاهدة والشويط)، أو التي منح ترخيصها لأشخاصٍ من خارج العشيرة التي تملكها بالعرف* (سمح لأهالي بعض القرى باستثمار أراضٍ تعود للبدو). وفي مثل هذه الحالات يسيّر ديوان الزراعة دورياتٍ مسلحة، برفقة أعضاء الجمعية الفلاحية في القرية المعنية، لمطابقة الأراضي مع السجلات، أو لفضّ نزاعاتٍ خلّف بعضها عدداً من المصابين. وقد يبيع التنظيم رخصة الزراعة لغير مستصدريها في حال لم يزرعوا الأرض.
يفيد المقاتل السابق في الجيش الحرّ بأن التنظيم نبّه الأهالي إلى أن حقّ الزراعة آنيٌّ ولا يعني حقّ التملك، وأن التنظيم غير معنيٍّ بالأمر في حال انسحابه «مالو شغل بيهم». وقد حاول حلّ نزاعاتٍ قديمةٍ عالقةٍ حول ملكية الأراضي، في محاولةٍ لكسب العشائر، وعقد اجتماعاتٍ عشائريةً عدّةً لذلك الغرض، لكنه لم ينجح. كما أنه أقدم على خطوةٍ غير مفهومةٍ في هذا المجال حين أزال -بحسب شهود- أساسات أبنيةٍ خاصةٍ في واجهات بعض القرى، وطرح أراضيها للاستثمار.
لم تحسم الأنظمة المتعاقبة ملكية الأرض، مما أذكى الصراعات عليها حتى بداية الثمانينات. توقفت هذه الصراعات نسبياً تحت ضغط القوة، ثم عادت مع الثورة، لكنها هذه المرّة ضمن العشيرة والفخذ والقرية الواحدة. وانتصرت الأعراف على القانون في مواطن عديدة، فطُرد مالكون جدد من أراضيهم ودارت نزاعاتٌ دمويةٌ مدارها ملكية الأرض، وبالتالي ثرواتها. ويزيد الأمر سوءاً ما يفعله تنظيم الدولة، الذي يعتبر هذه الأراضي مصدراً مالياً بلا رأسمال، بينما يراها الأهالي مصدر رزقٍ غير مكلفٍ ونظيف، أو فرصةً جديدةً لتملكٍ جديد.
مجلة عين المدينة