يتجادل أطفال أمام منزلي حول إمكانية زراعة المال. يؤكد أحدهم أنه لو زرع ورقة نقدية من فئة الخمسمئة ليرة سورية ستنبت شجرة من المال من الفئة ذاتها وحين رد عليه طفل آخر: “روح جيب ألف ليرة لنجرب” قال: “ما معي غير مية ليرة”.
امتلكنا أحلاماً مشابهة في صغرنا، يبدو أن أحلام السوريين لا تتغير من جيل إلى آخر. لا أدري إن زرع الأطفال لاحقاً المئة ليرة لكن المشكلة التي ستواجههم هي عدم وجود مساحات لزراعة أشجار المال في دمشق.
أفكر في أطفال سوريا وشكل الحياة التي عاشوها، الأطفال الذين ينتظرُ أهلهم تسميتهم تيمناً بأسماء أبطال المسلسلات التركية، مهند هو طفل في الثانية عشر، سمته والدته على اسم بطل المسلسل التركي الشهير “مهند ونور” لكن هذا المهند مختلف بشكل كامل ولا أقصد الشكل إنما المنزل والحياة والأحلام، يقول لي مهند أريد قفصاً لعصفوري، فالقفص الذي لديه بات قديماً واستعان والده على تدعيمه ولفّه بالأسلاك.
قال لي مهند لاحقاً ألّا حاجة به الآن إلى قفص جديد، سقط القفص القديم ومات أحد العصفورين لتلحقه الأنثى وتموت بعد عدة أيام.
أحلام الأطفال في الأزمات هي شجرة من المال، قفصٌ للعصفور، وبعض الفاكهة. يرفع جون طفل الجيران المشاكس كأساً بلاستيكياً وضع فيه الماء وبعض التراب مردداً في وجهي “قهوة”! ابتسم له وأقول: يبدو أنها قهوة لذيذة، أدخل منزلي وأشعر بطعم التراب في فمي.
يتحول السوريون إلى أطفال، لديهم أحلامهم، قد لا تكون شجرة المال، فقد كبروا على تصديق ذلك، لكن ربطة الخبز ووصول رسالة الغاز والأرز والسكر هي أحلام لا تختلف عن حلم شجرة المال، يكفي مشاهدة الوجوه السعيدة حين الحصول على هذه المقومات البسيطة حتى تدرك كيف تحول الكبار هنا إلى أطفال، تسعدهم أشياءٌ هي مجرد تفاصيل عابرة في أماكن أخرى. أما أحلام الصغار فتشي بالعوز، مشاهدة الحياة دون عيشها، والرغبة في امتلاك الألعاب والحلوى والكرات، لا يمكن إيقاف الأطفال عن التمني وعن طلب الطعام والألعاب والحلويات، ولو اكتفى الكبار بالحياة القاسية مرغمين إلّا أن الأطفال مازالوا يتخيلون حياةً أخرى مستحيلة الحدوث. “تخيلي لو صار معي مليون ليرة”، المليون ليرة التي يريدها جون يخطط لشراء الألعاب فيها ودراجة هوائية صغيرة، في آخر مرة شاهدته يحاول جاهداً ركوب دراجة والده، ولأنه لا يستطيع ركوب الدراجة العالية، اكتفى بوضع إحدى قدميه على الدواسة وتحريك الدراجة بقدمه الأخرى، لكنه سقط.
أقل ما يمكن أن يوصف شعور أطفال سوريا كما كبارها اليوم هو الرعب. مرعب أن تجد الطعام حولك في كلّ مكان لكنك غير قادر على شراء سوى القليل. في يوم رأى السوريون رجل يمشي برفقة لبوة وسط دمشق، البعض قال إنها جلسة تصوير، وفي بلد لا رقيب فيه لن يكون مهماً وجودها في الشوارع.
مرعب أن ترى لبوة تتمشى وأنت تعلم أنها تأكل اللحم كلّ يوم ولأنها تتمشى في الشوارع قد تكون أنت وجبتها التالية، اللبوة التي تحتاج أقله إلى سبعة كيلو غرامات من اللحم في اليوم، ما يقارب المئة ألف ليرة سورية لو كان لحماً رديئاً، بينما يعجز الآلاف عن شراء أوقية من اللحم، ليست المشكلة في اللبوة أو ما تأكله لكن في بلد بات شراء اللحم رفاهية يبدو مشهد اللبوة وهي تتمشى وسط شوارع دمشق مستفزاً!
مرعب أن تتخيل شكل الجوع حتى لو كنت من أصحاب الدخل الجيد، وكأنك في أي لحظة ستخسر رفاهية الحصول على الطعام ببساطة، فقط لأنك تعيش في سوريا.
في المقابل يجب عليك دفع المال كيفما اتجهت. يقول بائع الأجبان والألبان في الحي الذي أقطنه: “لا يعقل صرف 5000 ليرة سورية كلما أدرتُ وجهي”، أمازحه قائلة: “حتى تغيير وجهة النظر لها ثمنها هنا”، تدخل امرأة تطلب شراء اللبنة بخمسمئة ليرة، وحين تشاهد الكمية الضئيلة في الكيس تقول للبائع: “بس هيك! هدول ما بكفو صندويشتين للولاد”، يستعيد البائع الكيس ويزيد الكمية رافضاً أخذ الخمسمئة ليرة ثم ينظر نحوي قائلاً: “ماذا يمكن أن نفعل غير هذا؟”
نعم السوريون وحين دخولهم الحمامات العامة أو تلك التي تعود للاستراحات على الطرقات يدفعون المال مقابل إفراغ مثاناتهم!
لم يعد المال مالاً في سوريا، هكذا يظن الكثيرون، فكيف يمكن أن يكون كذلك وهو لا يكفي لشراء اللبنة أو لزراعة شجرة المال حتى؟ في حين كلّ حركة صغيرة ورغبة وأمنية لها ثمنها، حتى باتت جملة: “بعد رح ندفع ثمن الهوا الي عبنتنفسوا” جملة السوريين الشهيرة كلما دفعوا المزيد والمزيد. حتى دخول الحمام يعني دفع المال، في استراحة على طريق حمص دمشق، ندخل إلى الحمام، الطريق طويلٌ ولابد من إفراغ المثانات الممتلئة، يجلس مراهق خلف طاولة على مقربة من باب الحمام، على الطاولة علبة من المحارم وعلبة كرتونية فارغة يضع المراهق فيها المال، تدخل الحمام بشكل طبيعي ثم تخرج وتمنح هذا المراهق المال بمقدار مئة ليرة أو مئتين حسب سعر صرف الدولار. نعم السوريون وحين دخولهم الحمامات العامة أو تلك التي تعود للاستراحات على الطرقات يدفعون المال مقابل إفراغ مثاناتهم! في حمامات أقل ما يقال عنها أنها مقززة. وحين نخرج، تمنح زوجة أخي المراهق نصف المبلغ المطلوب لكنه يعترض فتقول له: “لم نتبول بالكامل، إنه ثمن نصف تبول”.
والدتي لم تتقبل حتى فكرة دفع المال مقابل دخول الحمام العام ومازالت تردد في كلّ مرة: “حتى الخرى صار يدفعونا ثمنو”، لكن لا أحد يمتهن هكذا عمل لو أنه يملك المال حقاً.
طفل قد يزرع المئة ليرة الوحيدة معه، وآخر يريد قفصاً وحسب، مراهق يحصل على المال مقابل تبولنا في الحمامات القذرة، وأخيرٌ يقدم لي الماء والتراب كقهوة لذيذة، هل يمكن أن تكون أحلام الأطفال أقل قسوة؟
نقلا عن درج