في قاعة تدريبية حملت من الطاولات أكثر مما حملته من أوراق، ومن الوجوه أكثر مما تَعوّدَته من الندوات، اجتمع ثلاثون إعلاميًا سوريًا من مشارب شتّى، ومؤسسات حكومية وثورية، بعضهم عاش التجربة من “راديو الثورة” وآخرون من “إذاعة دمشق”، ومن جريدة “الثورة” وجريدة “الحرية”، وبعضهم من وزارة الإعلام و مديريات الإعلام الرسمية نفسها… وكان العنوان: “دبلوم رئيس التحرير”.
لكن الحقيقة؟ لم يكن مجرّد دبلوم.
بل مشروع وطني صغير، اندسّ بين السطور التدريبية ليعيد تعريف الممكن في بلدٍ أنهكته الاصطفافات، وأضنته المفاهيم المعلّبة.
حوكمة الإعلام
“الحوكمة ليست تنظيرًا… بل عمود مؤسسة تريد أن تبقى واقفة في عاصفةٍ لا ترحم”،
قالتها الآنسة جهاد الحزاني – إذاعة دمشق – بصوتٍ هادئ لكنه قاطع، وأضافت:
“مأسسة الإعلام تعني خلق كيان يستثمر في الإنسان والفرصة، يقوده وضوح الرؤية وعمق القيم.”
وهذا بالضبط ما حاول أن يفعله المدرب أكرم الأحمد، حين صاغ محتوى الدبلوم من زاوية قيادة الرأي لا تحريره فقط. فبمزجٍ مدروس بين إدارة السمعة والأزمات والحوكمة الاستراتيجية، تحوّل البرنامج إلى مساحة لمناقشة أكثر المسائل هشاشة: العدالة الانتقالية، والسلم الأهلي، والهوية السورية الجامعة.
تفكيك الصور النمطية
دخلت الآنسة هبة علي – جريدة الثورة – القاعة وفي داخلها “تخوف” كما وصفته لاحقًا، لكن ما خرجت به كان مختلفًا تمامًا: “كسرنا الحواجز، وتعلمنا أن نسمع دون أن نقاطع، وأن نختلف دون أن نُقصي. لكلٍّ منّا روايته، وأول الطريق نحو التغيير هو أن نسمح للروايات أن تُقال.”
بين لحظات النقاش والتفاعل، انقلبت مسافات الجغرافيا إلى جُملٍ أقرب، والاختلافات إلى فرصٍ للاعتراف.
الآنسة تمارا شارل جريدة الحرية قالتها دون مواربة:
“كسرت حاجز كبير… وعمّقت حاجز مع بعض الأشخاص، لكن بدون كراهية. وهذا جوهر أي مشروع وطني: نختلف، لكننا لا نتباغض.”
إدارة العقول لا المواقف
الأستاذ علي رسلان مديرية إعلام ريف دمشق طرحها من زاوية استراتيجية بحتة:
“لا يُثمر الإبداع دون إدارة. ولا يُنتج الإعلام تأثيرًا دون قيادة تفهم أن المؤسسة ليست آلة، بل كيان ينمو بقيادة تُجيد فهم اتجاه الرياح.”
هذا الفهم عمّقته كلمات الأستاذ أسامة حليس – وزارة الإعلام – الذي رأى أن سرّ نجاح الدبلوم هو:”التركيز على تطوير الأداء لا التنابز بالمواقف. الودّ لم يكن مصادفة، بل نتيجة وعي جماعي بأننا هنا من أجل الناس لا من أجل أيّ سلطة.”
من الخصام إلى الحوار
الآنسة مها دياب جريدة الثورة قدّمت شهادة تُلخّص التحوّل:
“لم يعد الإعلام الحكومي مجرد ناقل للرسائل الرسمية، بل أصبح جسرًا بين الدولة والمجتمع. هذه الدورة أعادت ترتيب أولوياتنا التحريرية بناء على نبض الناس.”
وقدّمت لينا إسماعيل جريدة الثورة خلاصة أنيقة:
“الدبلوم كان بروفة مصغّرة لسوريا الممكنة… سوريا التي تتحدّث لا تصرخ، وتختلف دون أن تُفرّق، وتسمع لا تُملي.”
مدرب يقود ببوصلة وطنية
أما الأستاذ أكرم الأحمد، العقل المُدبّر خلف هذا الدبلوم، فلم يكتفِ بتقديم محتوى تدريبي.
بل استحضر فلسفة متكاملة، تستند إلى:
تيسير الحوار لا تلقينه، الدمج بين النظرية والتجربة، إدارة التوترات دون قمعها، وتحويل كل جلسة إلى تمرين على السلم الأهلي.
قالها بوضوح: “هدفي أن أجعل من كلّ متدرب قائد رأي، لا ناقل أخبار. أن نُعيد بناء الثقة بالإعلام، من خلال الإعلام نفسه.”
شهادات تجمع ولا تشتّت
من إذاعة دمشق إلى راديو الثورة، ومن وزارة الإعلام إلى الصحافة المستقلة، عبّرت شهادات المتدربين عن فهم جديد لدور الإعلام:
إعلام يُنصت لا يُملِي.
إعلام يربط المؤسسات بالناس لا بالسلطة.
إعلام يرى في التنوع السوري ثروة لا تهديدًا.
من وجهة نظري
أنا كاتب هذا المقال… كنت حاضرًا، لا مراقبًا. ورأيت بأم عيني كيف يتحوّل الانقسام إلى اختلاف محترم، كيف تذوب الشكوك لصالح الثقة، وكيف يمكن لإعلاميين تربّوا على نُظمٍ متضادة أن يتناقشوا على طاولة واحدة، ويخرجوا بخطاب مشترك.
وربما، فقط ربما… ما فشل السياسيون في صنعه، أنجزته ورشة حوكمة واحدة يقودها مدرب ذكي، وفريق متعطّش للمعنى.
هل من السذاجة أن نعلّق آمالًا على تدريب؟
ربما.
لكن ماذا لو قلنا إن من خرجوا من تلك القاعة، سيكتبون غدًا السياسات التحريرية، ويقودون المؤسسات، ويحدّدون أولويات الجمهور؟
ماذا لو كانوا، هم بالذات، قادة سوريا الإعلامية القادمة؟
الأمر لا يحتاج أكثر من نُسخة واحدة من هذا الدبلوم… ولكن مئة مرة.
هل نُعيد التجربة؟
أم ننتظر حتى تُصبح الحاجة إلى الحوار ضرورة وطنية لا ترفًا تدريبيًا؟