يشهد جنوب غرب سوريا، “مهد الثورة”، تطورات متناقضة؛ فالسكان المحليون الذين طالبوا بدولة من دون الأسد، وعقدوا اتفاقات “مصالحة” مع النظام بعدها، يلمون شملهم مرة أخرى اليوم، بل ويخوضون معارك مسلحة ضد القوات الموالية للنظام. لم يعد هؤلاء جزءاً من المعارضة؛ بل مقاتلون في اللواء الثامن من الفيلق الخامس الموالي لروسيا.
زاد قائد اللواء من عديد فرقته إلى أكثر من الضعف؛ فيما تتثير استقلاليته الغضب والحيرة لدى نظام الأسد، وفق ما يستعرض موقع ريدِل في تقرير له حول كيفة محاولة روسيا دعم المعارضة السورية دون إضعاف نظام الأسد.
لقد أنقذت موسكو الأسد عملياً من خلال إضعاف خصومه، لكنها بدأت الآن في مساعدة مركز بديل للقوة. هل يعني هذا أن روسيا مستعدة لانتهاك المزيد من التزاماتها لتحقيق أهواء إسرائيل والغرب ومنع تمكين الجماعات الشيعية في جنوب غرب سوريا؟
فشلت روسيا في إنشاء مجموعات ضغط سياسية خاصة بها على مستوى البلاد في سوريا. كما أنها لم تكن قادرة على شغل موقع خاص عسكرية لدى النظام. الوضع متناقض لهذه الدرجة بسبب غياب مجموعات الضغط، حيث أدت هذه الفجوة إلى تعقيد العلاقات بين موسكو والنظام؛ فغالباً ما تضطر روسيا إلى التنازل عن القضايا التي تشكل مخاطر على علاقاتها مع مختلف الجهات الفاعلة في الساحة السورية. على سبيل المثال، يؤدي كل تصعيد للصراع في إدلب إلى تعقيد العلاقات بين موسكو وأنقرة، مما يقلل من مرونة روسيا، ويمنح أفعالها مظهراً أكثر سمية في نظر الأنظمة الملكية السنية والغرب.
في الوقت ذاته، يبدو أن لدى روسيا رؤية واضحة عندما يتعلق الأمر بتقييم قدراتها، التي تقيدها الظروف الاقتصادية والضرر الذي قد يلحق بسمعتها. لابد أن يكون هذا هو السبب الذي لا تريد السلطات الروسية من أجله احتلال موقع مهيمن في هياكل السلطة لدى نظام الأسد، أو احتواء النفوذ الإيراني في سوريا. تستلزم مثل هذه المقايضة الاستخدام الحكيم للموارد التي تمكنت هذه السلطات من الحصول عليها خلال الحملة العسكرية والاختيار الدقيق لمجالات نفوذها. على الرغم من أن روسيا تظاهرت بإجراء حوار مع المعارضة المناهضة للأسد ثم قاتلت ضدها بذريعة تدمير القوى الراديكالية، قد بات جلياً أنه يتعين على موسكو دعم معارضي الأسد للحفاظ على نفوذها، ولو أن هؤلاء المعارضين “متصالحون” رسمياً مع النظام.
لقد سلمت تشكيلات المعارضين السنة تحت قيادة الفيلق الخامس في جنوب غرب سوريا أسلحتها الثقيلة فقط ولم يتم نزع سلاحها بالكامل. روابط موسكو مع المعارضة السابقة – المعارضة التي لم يتم سحقها بالاستسلام – تسمح لموسكو ليس فقط بالتوصل إلى حل وسط والحفاظ على التوازن الطائفي ولكن أيضأً بردع التوسع الإيراني في مناطق معينة.يعد الفيلق الخامس امتداد مهم للنفوذ الروسي؛ وهو تشكيل عسكري خاص، مسلح وشبه نظامي، أنشأه جزئياً الجيش الروسي الذي يشرف عليه أيضاً. على الرغم من أن الفيلق نفسه لم يتحول إلى وحدة فعالة وجاهزة للقتال يمكنها تنفيذ عمليات تشغيلية وتكتيكية بشكل مستقل، إلا أن بعض كتائبه يمكنها التنافس مع وحدات النظام الخاضعة للنفوذ الإيراني.
يلعب اللواء الثامن، المكون من مقاتلين أجروا مصالحات في وقت سابق، دور قوات عزل روسية في محافظتي درعا والقنيطرة. في أيار / مايو 2018 ، وافقت موسكو وتل أبيب وواشنطن على ترك منطقة خفض التصعيد الجنوبية للأسد مقابل وعده باحتواء القوات الموالية لإيران التي تهدد إسرائيل. ولكن، بعد فترة وجيزة من الاتفاق، تبين أن وجود منطقة خالية من القوات الخمينية في سوريا أمر غير وارد.
لا يزال الأصوليون يظهرون في الأماكن التي يديرها النظام. ومع ذلك، فإن السيطرة على بعض المناطق الحدودية من قبل أشخاص لديهم إمكانات احتجاجية يمثلون اللواء الثامن هو ما يعيق ويعقّد انتشار القوات الموالية لإيران؛ فميليشيات أسد لا تستطيع التصرف بحرية في هذه المناطق. على سبيل المثال، تؤدي محاولة اعتقال جندي عادي من اللواء الثامن، بذرائع كاذبة، إلى اشتباكات وإطلاق سراحه لاحقاً.
بدورها، تعمل الهياكل المدنية المرتبطة مباشرة باللواء الثامن، في المناطق التي يسيطر عليها اللواء، فقد تحولت المنطقة، بموافقة ضمنية من روسيا، إلى نوع من “أرض أجنبية” في سوريا.
الاسم غير الرسمي للواء الثامن هو “لواء أسود الحرب”، ويقع مقره و ترتكز أغلب وحداته في بلدة بصرى الشام شرقي محافظة درعا. فيما قاد التشكيل منذ إنشائه، أحمد العودة، القيادي السابق في فصيل “شباب السنة” المعارض، يساعده ضابط ارتباط الأركان الروسي، الذي يتلقى الأوامر مباشرة من قيادة الفيلق الخامس. في نيسان / أبريل 2019 ، كان عديد اللواء الثامن التابع للفيلق الخامس 1585 فردأً، من دون المدنيين؛ في حين أنه يضم ما يقرب من 3000 عنصر اليوم. تتركز جماعات معارضة أخرى، التي أجرت مصالحات ولكن لم يتم دمجها في الهياكل الرسمية بعد، في محيط المناطق التي يسيطر عليها اللواء الثامن. هذا وقد دعا عودة نفسه إلى إنشاء جيش موحد في المنطقة.منذ البداية، حاول نظام الأسد وطهران منع روسيا من التعامل مع السكان المحليين، ونتج عن ذلك أن تمكن الروس من إنشاء لواء واحد فقط، هو اللواء الثامن، بدلاً من الثلاثة المخطط لها. حتى الآن، فشلت روسيا في تشكيل لواء في درعا والقنيطرة وآخر في السويداء، رغم أنها لا تزال تنوي ذلك. في الوقت نفسه، يواصل ممثلو إيران وقادة حلفاء الفرقة الرابعة، بقيادة ماهر شقيق بشار الأسد، تجنيد مقاتلي المعارضة السابقين. حيث انضم في تموز / يوليو 2020 ، لواء من خمس كتائب (الكتائب المرقمة من 641 وحتى 645)، المكون من معارضين سابقين، إلى فرقة ماهر. هذا و يتم تجنيد أعضاء المعارضة السابقين الآخرين كأمن عسكري للنظام.
تخطط روسيا لإنشاء مناطق “أجنبية” أخرى في سوريا، تسيطر عليها التشكيلات الموالية لها والمكونة من عناصر المصالحات. تقع هذه المناطق بشكل أساسي في شمال شرق سوريا، حيث تم تعزيز النفوذ الروسي بعد مذكرة سوتشي في تشرين الأول / أكتوبر 2019. تنص المذكرة على تسيير دوريات روسية -تركية مشتركة في المنطقة الأمنية الحدودية السورية، ما يعني وجوداً عسكرياً روسياً أقوى في المنطقة.
تقع المناطق المهمة لإيران أيضاً في هذه المنطقة، بما في ذلك ما يسمى بالممر الشيعي، الذي تسيطر عليه مجموعات مختلفة موالية لإيران. بالاعتماد على مجموعات معارضة مختلفة، يمكن لموسكو موازنة النفوذ الإيراني من خلال حزام الأمان الخاص بها. من الواضح أن الجيش الروسي لديه مثل هذه الخطة. يمكن ملاحظة ذلك في محاولة تشكيل الفيلق السادس من وحدات الفرقة الثالثة المتمركزة في شرق سوريا.
كانت هناك خطط لتزويد هذه الوحدات بالمجندين باستخدام كل عناصر المصالحات والمقاتلين من الوحدات المحلية الموالية للنظام من ميليشيات الدفاع الوطني الذين كانوا منذ فترة طويلة في صراع مع الإيرانيين. يمكن للتشكيلات العربية المسلحة المختلفة التي كانت في السابق جزءاَ من ميليشيا قسد والعربية الموالية لأمريكا أن توفر العديد لقوات الوحدات الموالية لروسيا في هذه المنطقة؛ فقد انسحبت هذه التشكيلات من صفوف قسد بسبب التمثيل الكردي المفرط في القيادة. يمكن أن ينطبق هذا أيضاً على مفارز ما يسمى بقوات النخبة السورية، وهو جناح عسكري لحركة الغد السورية التابعة لأحمد الجربا. لا يزال الجربا، يشارك بانتظام في المفاوضات مع كبار المسؤولين في وزارة الخارجية الروسية. لا يمكن استبعاد أن “الأراضي الأجنبية” الروسية في جنوب غرب وشمال شرق سوريا يمكن أن تعزز أجندة سياسية متماسكة.
ومع ذلك، قد لا تتجاوز هذه السيناريوهات المرحلة الأولية. على الرغم من اعتماده على موسكو، فإن الأسد يلعب لعبته ويميل على كتف إيراني للاستفادة من كلا الجانبين. لا يمنع الوضع الاقتصادي المتردي دمشق من اللعب في الكواليس: فقد أظهر نظام الأسد أنه لا يهتم برفاهية شعبه. يعتقد الأسد أن بقاء النظام ومرونته يجب أن يحافظ عليهما السياسيون الموالون ورجال الأعمال وميليشياته الذين يعتمدون على قوات الأمن والذين يمتنعون عن التعبير عن السخط ويوافقون على وضع أصولهم في خدمة بشار الأسد. إن مغازلة موسكو لمراكز القوة البديلة محفوف بالتخريب. لذلك، يجب أن تقارب مثل هذه الإجراءات نظام الأسد بشكل مسبق. غير أنه لا يمكن للمرء الاعتماد على الغرائز (الحدس) أو السلوك اللائق للسلطات الروسية، حيث تشتهر موسكو بسوء سياستها الخارجية تجاه الحلفاء؛ فإما أن يغض الكرملين الطرف عن مغامرات شريكه أو يحاول استغلالها بقوة، بحيث تستولي على الشريك حالة هستيرية ويبدأ في البحث عن راعٍ آخر. وبينما تشبه سوريا كوريا الشمالية بشكل متزايد، نظراً لتكوين القوة الحالي، أصبحت سوريا أكثر أهمية بالنسبة لروسيا من روسيا بالنسبة لسوريا.
نفلا عن اورينت نت