مع عامٍ ثانٍ من التدخل الروسي في سورية، يبدو المشهد أكثر تعقيداً مما كان عليه لحظة اتخاذ موسكو قرارها قبل عام، كما أن تطورات الحرب السورية تبدو مفتوحةً على احتمالاتٍ واسعة من المخاطر، نتيجة فشل محاولات التوصل إلى تسويةٍ بين اللاعبين الدوليين والإقليميين المنخرطين في الصراع.
تواجه روسيا متغيراتٍ، سياسية واستراتيجية، في الساحة السورية، نتيجة انكشاف أهدافها في الصراع، وانحيازها المطلق إلى صف إيران ونظام الأسد، وهو ما تعتبره أطرافٌ إقليميةٌ ودوليةٌ بمثابة العبث بالتوازنات القائمة، وإشاعة حالةٍ من الفوضى من شأنها أن تشكل ديناميةً تفجيرية سنوات طويلة في المنطقة. وقد فشلت روسيا في إدارة التوازنات، للوصول إلى حل سلمي، يرضي جميع الأطراف، وهو الأساس الذي بناء عليه كانت قد حصلت على فترة من غضّ الأطراف الأخرى الطرف، غير أن إغراءات النصر واحتمالات سهولة تحقّقه جعلت الكرملين يذهب بعيداً في تصوراته عن إمكانية تحقيق مكاسب سياسية وجيوسياسية بعيدة المدى، من صراعٍ تتشابك فيه قوى إقليمية ودولية عديدة.
ولعل هذا الطموح هو ما فتح عيون المؤسسات العسكرية والأمنية الأميركية، وتنبّهها للمخاطر التي يريد بوتين وضعها في مواجهة أميركا التي تضرّرت كثيراً من الألاعيب الروسية، سواء على صعيد علاقاتها مع حلفائها في المنطقة، أو على مستوى سمعتها العالمية التي تعمد بوتين إلى إظهارها بمظهر القوى الغاربة شمسها، وتراكب هذا الانتباه الأميركي مع قلق إقليمي، كانت مراكز القرار فيه قد فاضلت بين وجود إيراني مخرب ووجود روسي يمكن التفاوض معه، لكنها سرعان ما اكتشفت أن السياق الذي رسمته موسكو هو نفسه الذي عملت عليه طهران، إخراج سورية من دائرتها العربية، وتحويلها منصةً لتهديد أمن الإقليم واستقراره.
في مواجهة هذا المتغير، تبدو روسيا اليوم أمام خيارين غير سهلين. الأول تغيير ديناميكية الصراع بشكل جذري، بما يضمن لها إيجاد أمر واقع، لا يجد اللاعبون الآخرون أمامه سوى التسليم بالنصر لروسيا، عبر إنزال هزيمة ساحقة بالمعارضة السورية، وهذا يتطلب تغيير التكتيكات التي استخدمتها روسيا، طوال العام الماضي، والقائمة على عمليات القضم من المساحة التي تسيطر عليها المعارضة، وتدمير البنى والهياكل لهذه الفصائل، وقطع طرق الإمداد اللوجستي ومحاصرتها، على اعتبار أن نتائج مثل هذه التكتيكات تتأخر في الظهور، وتمنح المعارضة فرصةً لإعادة ترتيب أوضاعها.
ولا شك أن مثل هذا الأمر يتطلب موارد وتقنياتٍ لا تمتلكها روسيا في الوقت الراهن، تتمثل بوجود قوةٍ جويةٍ فاعلةٍ، تعمل بناءً على معلومات استخبارية نوعية وبكثافة عالية، وهو ما يصعُب تحقيقه، نظراً لأن معدل الانتشار الحالي للقوات الروسية، والمستوى الاستخباري الموجود لخدمتها، سيجعل من الصعب القيام بعمل فاعل للقوات الجوية. وسيجعل استمرار هذا النقص روسيا مضطرةً إلى اتباع النمط القتالي القائم على استهداف المدنيين، للضغط على المعارضة، لكنه لن يكون سهلاً، كما كان في السابق، نتيجة كثرة منتقدي روسيا. وبالتالي، سيدفعها إلى تكثيف انخراطها البري والبشري، عبر إنزال آلاف جديدة من قواتها، وزيادة أصولها العسكرية، الجوية والبحرية، وهو ما يعني بداية التورط الحقيقي في المستنقع السوري وزيادة باهظة في تكاليف العملية.
الخيار الثاني، اضطرار روسيا إلى غض النظر عن تدخل اللاعبين الآخرين، أميركا وتركيا في الشمال السوري، وربما في أماكن أخرى في سورية، خصوصاً وأن واشنطن وأنقرة تبدوان عازمتين على السير بمشاريعهما العسكرية، من خلال تدعيم مواقعهما وتأسيس البنى اللازمة لها. وينطوي التدخل التركي على احتمالاتٍ كبيرةٍ لتطويره إلى تدخّل أشمل، خصوصاً إذا قرّرت السعودية الدخول في الحرب لمواجهة “داعش”، أو في حال تفعيل تهديدات وزير الدفاع الأميركي، آشتون كارتر، بشن عمليةٍ عسكريةٍ في جنوب سورية ضد داعش، وهو من شأنه إضعاف الأوراق الروسية في سورية، عبر كسر احتكار قرارها، وتحولها إلى لاعبٍ مثل بقية اللاعبين.
وثمّة مخاطر تواجه روسيا في الميدان السوري، في بداية عامها الثاني، تتمثل بالتغيرات الهيكلية التي يجريها حلفاء المعارضة الإقليميون على الفصائل العسكرية، حيث يجري العمل على توحيد هذه الفصائل، وإصلاح الأعطاب التي حصلت في بنيتها على مدار العام السابق، وقد يشمل ذلك تغيير آليات عملها، وأسلوب إدارتها للحرب، ونمط عملياتها، وقد بدأت تباشير هذا الأمر بالظهور في عمليات ضم الفصائل وتجميعها في إدلب ودرعا. ولا شك أن ذلك، في حال اكتماله، سيتطلب من روسيا مضاعفة انخراطها، وستطلب مزيداً من الكوادر، في وقت وصل حلفاؤها على الأرض (نظام الأسد وحزب الله وإيران) إلى درجة عالية من الاستنزاف، يصعب معها تأمين المعادل الموضوعي للكتلة البشرية لدى فصائل المعارضة.
يتمثل الخطر الأكبر الذي يواجه روسيا في العام الثاني بعدم قدرتها على تسييل مكاسبها الميدانية في الجانب السياسي، وذلك لعجزها عن فرض رؤيتها السياسية، ما يعني بقاء مهمتها في طور الاستنزاف العسكري. عمليات كر وفر لا نهاية لها، وسيبقى هذا العجز مواكباً لها، وقد صنعته موسكو بيدها من خلال تشتت أهدافها وعدم واقعيتها، فهي أرادت تثبيت الأسد، واعتراف الغرب بسيطرتها في أوكرانيا، بل ذهبت بعيداً في محاولتها عزل السعودية والخليج والبيئة الحاضنة للثورة السورية عبر مؤتمر الشيشان، وقد وضعها ذلك كله في موقف تصادمي مع طيف واسع من الخصوم، بل ونبه أطرافاً كثيرة إلى الخطر الذي تمثله روسيا عليهم.
في العام الثاني من تدخلها في سورية، تفتقد روسيا ميزتين صنعتا الجزء الأكبر من نجاحها في العام الأول، انتهاء فعالية عنصر الصدمة بالنسبة لفصائل المعارضة وامتلاكها القدرة على التكيف مع مختلف ظروف الحرب مع روسيا، وكذلك انكشاف حقيقة أهدافها الإقليمية، وانحيازاتها ضد أطراف معينة. وستترتب عن هذين الأمرين إجراءات مقابلة، سترفع تكاليف التدخل الروسي بما يفوق تصوّرات الكرملين وتقديراته بكثير.
العربي الجديد – غازي دحمان