منذ انتهاء الحرب الباردة في يوم ما من سيرورة تداعي المنظومة السوفياتية، والعالم يبحث عن نقطة توازن جديدة تتأسّس عليها العلاقات بين الدول وآليات تصريف الاختلاف وتسوية الصراعات. كانت البداية في إيكال مهمات جديدة لهيئة الأمم المتحدة التي بدت وكأنها دائرة صنع السياسة العالمية، إذا صحّ التعبير. بدلالة أن الولايات المتحدة والدائرين في فلكها استطاعوا إدارة مجلس الأمن من دون كبير عناء بما يخدم انتصار الرأسمالية التاريخي على الاشتراكية السوفياتية. أما روسيا الخارجة من انهيار الاتحاد السوفياتي فبدت مُنهكة تماماً وغير قادرة على وقف الإنزلاق نحو تسيّد أميركا ونظام عالمي يقوم على قطب واحد مركزي ومراكز أقلّ شأناً.
أسوق هذا الكلام في ضوء ما نراه من تسخين لمحركات المواجهة الروسية – الأميركية التي لم تعد الديبلوماسية قادرة على إخفائها. قد تكون نقطة الاشتعال سورية المأزومة لكن التوتّر متنقل من موقع لآخر عبر العالم. فالولايات المتحدة التي اعتمدت مؤخراً التصعيد في التصريحات ضد روسيا انطلاقاً من الشأن السوري، كانت صعّدت في بولندا ودول البلطيق وفنلندا وأوكراينا ورومانيا وتشيخيا من خلال سلسلة من المعاهدات ذات الطابع العسكري مع نصب بطاريات صواريخ مضادة في المناطق الشرقية والجنوبية المحاذية لروسيا. أما الروس الذين ما زالت عقيدتهم العسكرية الموروثة عن النظام السوفياتي تقول إنهم قد يتعرّضون لهجوم أميركي غربي في كل لحظة، فبدوا في السنوات الأخيرة عصبيين مستعدين للمواجهة. وهم يفعلون ذلك الآن بخطوات عملية على الأرض. فليس أنهم أنقذوا نظام الأسد من السقوط بل نراهم مصرين على التمسك بمحور يمتد من طهران (الحدود الجنوبية لموسكو) إلى سورية مروراً بالعراق وصولاً إلى لبنان (على الشاطئ الشرقي للمتوسط). وقد رأينا في تصريحاتهم الأخيرة أنهم (وللآن في إطار حرب كلامية في بدايتها) مستعدون لإحياء شبكة قواعدهم العسكرية في مواقع استراتيجية من العالم. وقد ذكروا فيتنام وكوبا مثلاً كمواقع يدرسون إعادة بناء قواعدهم العسكرية فيها على غرار ما كان في الزمن السوفياتي.
شيء ما يحصل على هذه الجبهة يُنذر بتصعيد ليس في التصريحات فقط بل في الأعمال على الأرض. وقد رأينا التعزيزات العسكرية الروسية على الجبهة السورية وإرسال المزيد من منظومات السلاح ربما لحسم معركة حلب. وعادة ما يدفع ثمن مثل هذه المواجهات تلك الدول الضعيفة أو أهالي المناطق التي تُعتبر استراتيجية. يتواجه العملاقان الأميركي والروسي في الراهن من خلال أجساد شعوب أخرى ومقدراتها وأوطانها. في هذا، لن يحصل أي تغيير في مواجهة هذه الأيام عن تلك، أيام الحرب الباردة. حروب بالوكالة، قتال بشعوب مستضعفة وأبنائها وبناتها، بينما تسلم تماماً أراضي البلدين وحاضرتيهما. قد تُباد حلب ولا يلحق الأذى زورقاً واحداً على شاطئ الولايات المتحدة.
أي تصعيد في سورية مثلاً قد يبدأ من إيعاز أميركي بتسليح المعارضة ومدّها بأسلحة نوعية دفاعية وهجومية، وقد ينتهي بتدخّل أميركي عبر وكلاء أو مباشرة في سورية ضد النظام وروسيا، وليس بالضرورة مع المعارضة. ومن شأن تصعيد كهذا أن يستقدم ردّاً روسياً واسعاً يخرج من نطاق حدود سورية إلى لبنان والدول المجاورة الأخرى بقصد ضعضعة الأوضاع في دول لا تزال واقفة على رجليها ضمن شبكة المصالح الأميركية أو الغربية. من شأن لحظة كهذه، إذا أتت، أن تؤسس لشرق أوسط جديد بمفهوم تفكيكه بالكامل قبل إعادة بنائه، إذا حصل البناء مجدداً! نقول هذا في ضوء ما يتكشّف في السنوات الأخيرة من أننا حيال عالم جديد في تعقيداته وأعرافه وانهيارات نُظُمه المعهودة. فليس مصادفة أن تعود للواجهة اقتراحات لإعادة بناء نظام مجلس الأمن بحيث تُضاف إلى عضويته الدائمة دول جديدة أو يتمّ تعديل نظام حق الفيتو فيه. فالمنظومة الدولية كما تأسست عليه مع انتهاء الحرب العالمية الثانية لم تعد قادرة على العمل والتأثير بخاصة في ما يتصل بوقف جرائم الحرب المتنقلة من مكان إلى مكان لا سيما سورية. أو قد نقول هذا في شكل مغاير. لم تعد قادرة على تحقيق المصالح في شبكة من العلاقات المعقّدة، لا لتلك الدول العظمى ولا لتلك المرتبطة بها.
إذا كنّا شهدنا تفكك دول وأقاليم وانفجار العنف المدمر فيها فإن هذا الانفجار مرشح للتوسّع في ظل ما استشعره من نزعة عالمية نحو تعديل «النظام» المعمول به وتعديل خرائط المصالح وتوازنات القوى. لقد اختلطت خريطة الأشياء عالمياً على نحوٍ يدفع باتجاه تغيير قواعد اللعبة. ولأن الديبلوماسية فشلت في كثير من المواقع فقد نرى القوى العالمية تجرّب غيرها. عضّ الأصابع أولاً ومن ثم كسرها، تسخين الأجواء ورفع حدة السجال الكلامي تمهيداً لحروب أو تفجير موجات من عنف محسوب قد يتطور إلى ما هو غير محسوب. ومَن يعتقد أن العالم بخير وأن هناك قوى ضابطة له كفيلة بمنع ما أشرنا إليه يكون واهماً حتماً في ظلّ التجربة الإنسانية في المئة سنة الأخيرة على الأقلّ. بينما الكواكب والأجرام خاضعة لقانون التجاذب والتنافر فإن الإنسان يختار مصائره ومسالكه ـ وهي ليست آمنة دائماً ولا هي محكومة لمنطق اللاحرب!
مرزوق الحلبي_الحياة