باتت سورية ساحة مستباحة لكلّ الدول الإقليمية التي فتحت شهيتها الاستعمارية، بعد أن تمّ تهيئة المناخ العام السوري خمس سنوات، ولعل أبرز المساهمين في هندسة الأجواء اللاعبان الأميركي والروسي والغرفة المغلقة في مجلس الأمن، والتي بدت قاعة مخصّصة لاستعمال الفيتو وإجهاض مشاريع السلام، لأنّها لا تتناسب طرداً مع الظروف الموضوعية لشهية المستعمرين الجُدد لسورية.
عشية الثامن من أكتوبر/ تشرين الأول الحالي، كانت سورية على موعدٍ جديد من المعركة الدبلوماسية في مجلس الأمن، والتي خُصّصت لمدينة حلب التي أحرقتها روسيا وقوات الأسد بجميع أنواع الأسلحة المحرّمة دولياً بذريعة محاربة الإرهاب .
انتقلت المعركة العسكرية إلى معركة سياسية بامتياز بين الدول الأعضاء في مجلس الأمن، وشعار الجلسة كان مجهّزاً مسبقاً، ونعني الفيتو الروسي بوجه أيّ محاولة لإحياء السلام، إذ انقسم الحاضرون إلى معسكرين، دول الغرب في مواجهة الدب الروسي، وخيّم على الجو العام للجلسة القوة في استخدام الخطاب الدبلوماسي، وتوجيه الاتهامات والتوبيخ لرئيس مجلس الأمن الحالي بقيادة مندوب روسيا، فيتالي تشوركين.
أجهضت موسكو باستخدامها الفيتو مشروع المقترح الفرنسي الذي كان من شأنه أن يفضي إلى تخفيف المحرقة في حلب، بفرض حظر طيران في سماء حلب. في المقابل، لم يُعتمد المقترح الروسي الذي كان من شأنه أن يمهد لبداية تفريغ حلب، وبذلك تكون روسيا قد استخدمت، للمرة الخامسة، الفيتو بمشاركة الصين في الملف السوري، وهي المرّة الثانية التي تُفشل به موسكو مقترحاً فرنسياً، إذ أجهضت في العام 2014 مشروع قرار لتحويل الملف السوري إلى محكمة الجنايات الدولية.
كانت روسيا تعلم مسبقاً أنّ مشروعها سيفشل، ومع ذلك أصرّت أن تخوض جولةً مع الغرب، لأنّها أرادت أن تبرهن لهم أنّها اليوم تمتلك زمام المبادرة، والقوة في منطقة الشرق الأوسط، وهي تسعى إلى تشكيل درع صاروخي خاص بها، ولم يعد يعنيها ما يُفرض عليها من عقوبات ولا ضغوط، فهي على الرغم من غطرستها إلا أنّها واضحة أمام الغرب، فمنذ تدخلها في سورية كانت تهدف إلى مواجهة الغرب والاستفراد بسورية، حيث تحوّل وجودها إلى احتلال بعد أن صادق مجلس الدوما على نشر قوات روسية دائمة.
مع ذلك، هي تظهر للجميع أنّها مستعدّة للتفاوض مع أيّ دولة، بما فيها أميركا، إذا ما أخذت بالحسبان، ليس فقط المحافظة على مصالحها في سورية، بل تحقيق إنجازات نهائية، فيما يتعلّق بالملف الأوكراني، خصوصاً. هذه كانت الرسالة الأساسية التي أرادت موسكو إيصالها في جلسة مجلس الأمن للدول الغربية ودول أوروبا.
على الطرف المقابل، اتحدت بريطانيا وفرنسا وأميركا بكلمة واحدة، وحمّلوا روسيا ورئيس مجلس الأمن المسؤولية الكاملة عن شلّال الدماء الجاري، وظهر هذا جلّياً في كلمة مندوب بريطانيا الذي امتنع عن تقديم شكر لرئيس مجلس الأمن.
أراد المحور الغربي أيضاً إيصال رسالة من حضوره الجلسة، فخطاباته التي أثبتت فشل مجلس الأمن وعجزه عن وضع حد للمأساة في سورية، تحوي في مضمونها صك براءة أخلاقي، يبرّر لهم تخاذلهم على الشعب السوري طوال فترة الصراع، فالمتتبع لما بين السطور لن ينسى أبداً أنّ هذه الدول هي نفسها من ساهمت في إطالة الحرب السورية، إضافةً إلى أنّها من سمحت لروسيا بإطلاق يدها في المنطقة، وفي مقدمتها أميركا التي أسقطت عدّة أنظمة من دون الرجوع إلى مجلس الأمن، والعراق خير دليل، فمندوبها الذي صبّ غضبه على روسيا في جلسة حلب، وأظهر عجز الولايات المتحدة عن كبح جماح روسيا، يعلم جيداً أنّ إدارة أوباما هي من عطّلت قرارات دولية عديدة كان من الممكن أن تنهي سفك الدماء في سورية، والخطاب الأميركي لا يختلف كثيراً عن الخطابين، البريطاني والفرنسي، فالغاية كانت واحدة، وهي تلميع وجوه مكفهرة خذلت حتى الطفل الرضيع في سورية.
آن الأوان للدول ال 15 في مجلس الأمن أن يعلموا أن هذه المسرحيات الهزلية لم تعد تجدي نفعاً أمام شعب أعزل، أسقط وعرّى كل قيمهم الأخلاقية والإنسانية، فمصالحهم في سورية باتت واضحةً في تقاسم الكعكة السورية، وما الخلاف بينهم إلا في التفاصيل، فدول تريد تحقيق مصالحها عبر تقسيم سورية، ومحور آخر يريد أخذ نصيبه بالحفاظ على وحدة سورية بالشكل وليس بالمضمون، وبمجرد حلّ هذه الجزئية ستنفّذ التسوية بليلة وضحاها.
العربي الجديد – يمان دابقي