تعيد مختلف الأطراف الدولية والسورية ترتيب أوراقها وتحديد خياراتها تجاه الملف السوري للمرحلة المقبلة، في الوقت الذي تستمر روسيا فيه بنهجها عبر الرد على أي خلاف سياسي بالانتقام من المدنيين، وهو ما تُرجم بعودة القصف العنيف على الأحياء التي تسيطر عليها المعارضة السورية في مدينة حلب. كذلك تعزز موسكو دعمها للنظام السوري، مع توجّهها لتزويده بمنظومة دفاع جوي، وذلك بعدما كانت أعلنت سعيها لإقامة قاعدة عسكرية دائمة في طرطوس السورية، الأمر الذي لم يتأخر النظام لتبريره.
مقابل ذلك، تعمل الدول والأطراف المعنية بالصراع السوري والداعمة للمعارضة على درس خياراتها، مع ترقب اجتماع وزراء خارجية دول مجلس التعاون الخليجي، يوم غد الخميس، مع نظيرهم التركي مولود جاويش أوغلو، في الرياض، والذي سيبحث التطورات في المنطقة وأبرزها الملف السوري.
فيما ترتفع حدة التوتر الغربي الروسي على خلفية الأزمة السورية، والتي أدت إلى إلغاء زيارة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين إلى باريس والتي كانت مقررة في 19 أكتوبر/ تشرين الأول الحالي، وسط أنباء عن أن بوتين رفض أن تقتصر المباحثات على الشأن السوري. كذلك وجّه وزير الخارجية البريطاني بوريس جونسون، تحذيراً إلى روسيا من أنها تخاطر بالتحوّل إلى دولة مارقة إذا واصلت قصف أهداف مدنية في سورية، قائلاً إن القوى الدولية يتعيّن عليها فعل المزيد لمعاقبة موسكو من خلال فرض عقوبات. وأعلن جونسون في كلمة أمام البرلمان أمس أن “كل الأدلة المتاحة تشير إلى مسؤولية روسية” عن الهجوم الذي استهدف قافلة مساعدات إنسانية في سورية قبل فترة، داعياً إلى التظاهر أمام السفارة الروسية احتجاجاً على عمليات موسكو في سورية.
في هذه الأجواء، تبحث المعارضة السورية عن حلول خارج مجلس الأمن الدولي بعد تعطيل موسكو لعمله، واستخدامها الفيتو للمرة الخامسة لإجهاض مشاريع قرارات تحاول إيجاد سبل حل للصراع السوري. وأعلنت المعارضة أنها ستبدأ إجراءات اللجوء إلى الجمعية العامة للأمم المتحدة لتفعيل مبدأ “الاتحاد من أجل السلام”، لاتخاذ قرار يعادل قرارات مجلس الأمن من حيث القوة التنفيذية. وينص هذا المبدأ على أنه في حال عدم تمكّن مجلس الأمن من مباشرة مسؤوليته الرئيسية في حفظ السلام والأمن الدولي، “تنظر الجمعية العامة في المسألة على الفور بهدف تقديم توصيات مناسبة إلى الأعضاء من أجل اتخاذ تدابير جماعية، بما في ذلك استخدام القوة المسلحة في حالة الإخلال بالسلم أو وقع عمل من أعمال العدوان، وذلك لحفظ السلم والأمن الدولي أو إعادته إلى نصابه”.
وعاود الطيران الروسي ومقاتلات النظام الحربية، أمس الثلاثاء، قصف الأحياء التي تسيطر عليها المعارضة السورية المسلحة في حلب بالصواريخ الارتجاجية، بعد أيام من الهدوء النسبي. وذكرت مصادر في المعارضة أن القصف استهدف عدة أحياء، منها: بستان القصر، والصالحين، والفردوس، والقاطرجي، مشيرة إلى مقتل وإصابة العشرات من المدنيين، بينهم أطفال. في حين ذكر ناشطون أن فرق الدفاع المدني في المدينة تحاول انتشال جثث قتلى من تحت الأنقاض، وإنقاذ مصابين عالقين. وبدأ الطيران الروسي، ومقاتلات نظام الأسد حملة قصف غير مسبوقة في التاسع عشر من الشهر الفائت إثر انهيار اتفاق هدنة هش رتبته موسكو وواشنطن، وأدت هذه الحملة إلى مقتل وإصابة آلاف المدنيين، وسط إصرار نظام الأسد وحليفيه الروسي والإيراني على خروج المعارضة من مدينة حلب قبل أن تتوقف الحملة، وهو ما دفع الملف السوري إلى مزيد من التأزيم.
ويأتي ذلك مع استمرار موسكو في زيادة دعمها للنظام السوري، وهي تنظر في إمكانية تزويده بشحنة من منظومة الدفاع الجوي الصاروخي المدفعي “بانتسير”، وفق وسائل إعلام روسية. ونقلت صحيفة “إزفيستيا” الروسية عن مصدر مطلع، أمس، أن صفقة بهذا الشأن كانت عقدت منذ عدة سنوات، إلا أنها لم تنفذ إلا جزئياً لأسباب مالية، مضيفاً أن روسيا قررت الآن تزويد النظام بالكمية المتبقية من “بانتسير” من دون المطالبة بالتسديد الفوري. وذكرت الصحيفة أن المصدر رفض تحديد العدد الدقيق لـ”بانتسير” التي سيتم إرسالها إلى قوات النظام، لكنه أشار إلى أنها لن تقل عن 10 وحدات متكاملة، علاوة على ذلك سيتم إرسال نقاط قيادة ومحطات رادار إضافية لربط وحدات التشكيل العسكري لهذا السلاح المضاد للجو بهدف زيادة فعاليته في مواجهة الغارات الكثيفة. وقال خبراء مختصون لصحيفة “إزفيستيا” إن “قرار موسكو بهذا الشأن دافعه على الأرجح الوضع المتوتر حول سورية والتهديد الأميركي بتوجيه ضربات إلى قوات بشار الأسد”.
وكانت روسيا قد أعلنت أنها تعمل على إنشاء قاعدة عسكرية دائمة في ميناء طرطوس، وهو الأمر الذي لم يتأخر النظام لتبريره، إذ أعلن مدير فرع الإعلام في جيش النظام العميد سمير سليمان، أن إنشاء هذه القاعدة “سيعزز قدرات القوات السورية وسيسرع تحقيق النصر على الإرهابيين”. وقال سليمان لوكالة “نوفوستي” الروسية، إن إنشاء هذه القاعدة “سيزيد من القدرات العسكرية لروسيا وسورية وكذلك حلفائهما الذين يحاربون الإرهابيين من أجل الإسراع في وضع حد للإرهاب”.
لكن مقابل رفع التحضيرات العسكرية، أعادت موسكو القول إنها مستعدة للتعامل مع الولايات المتحدة والدول الغربية الأخرى لتسوية الأزمة السورية. وقال نائب وزير الدفاع الروسي أناتولي أنطونوف، أثناء مشاركته في أعمال الدورة السابعة للمنتدى السنوي العسكري حول قضايا الدفاع والأمن في بكين، أمس، إن “موسكو ستواصل بذل الجهود في محاربة الإرهاب والحيلولة دون تصعيد حدة التوتر في سورية بغض النظر عن الاتهامات الباطلة الموجهة ضدها”، مشدداً على أنه “لا يوجد حل عسكري للأزمة في سورية”. وأعرب عن أمله في أن “الولايات المتحدة لم تتخل تماماً عن الوسائل الدبلوماسية لصالح السيناريو العسكري في سورية”، مشيراً إلى أن موسكو لا تزال مستعدة لاستئناف الحوار مع واشنطن بشأن سورية.
في غضون ذلك، وفيما كانت موسكو تعلن إلغاء زيارة بوتين إلى باريس، كان الرئيس الفرنسي فرانسوا هولاند يعتبر أنه من المهم مواصلة المحادثات مع روسيا رغم الخلافات الكبيرة معها بشأن سورية ولكن لا جدوى من المباحثات إذا لم تكن “صريحة وحازمة”.
أما تركيا فكانت تؤكد أن “عمليات مكافحة الإرهاب خارج الحدود” (في سورية والعراق) متواصلة بكل حزم. وقال رئيس الوزراء التركي، بن علي يلدريم، في كلمة له أمام الكتلة النيابية لحزبه، العدالة والتنمية، أمس: “نتحدث (في سورية) دائماً عن غرب الفرات، لكن في حال استمرت الأنشطة الإرهابية شرق الفرات، فإننا مستعدون لفعل ما يلزم هناك أيضاً”.
في هذه الأجواء يأتي تحرك المعارضة السورية باتجاه الأمم المتحدة، وأكد المتحدث باسم الهيئة العليا للمفاوضات التابعة للمعارضة رياض نعسان آغا، في تصريحات لـ”العربي الجديد”، أن إجراءات اللجوء إلى الأمم المتحدة “ستبدأ قريباً” من أجل تفعيل مبدأ “الاتحاد من أجل السلام”، مشيراً إلى أن هناك دولاً شقيقة وصديقة تقف إلى جانب السوريين في هذا الخيار السياسي، مضيفاً: “علينا فعل كل ما ينبغي عمله”.
وفي سياق التحركات السياسية للمعارضة، حثّ المنسق العام للهيئة العليا للمفاوضات رياض حجاب، الحكومة الفرنسية على متابعة جهودها في المحافل الدولية، معبراً خلال اتصال هاتفي مع وزير الخارجية الفرنسي جان مارك إيرولت، الاثنين، عن شكره لفرنسا للدور الذي تقوم به للحدّ من المعاناة الإنسانية في سورية وخصوصاً في مدينة حلب، وإنهاء الحصار عن المدن والبلدات وإدخال المساعدات الإنسانية، وإيجاد حل عادل للقضية السورية. وشدد حجاب على ضرورة البحث عن آليات أخرى خارج مجلس الأمن الدولي، بسبب تعطيل روسيا لعمل مجلس الأمن بموقفها ومشاركتها في جريمة قتل الشعب السوري إلى جانب نظام الأسد، داعياً إلى محاسبة من يرتكب الانتهاكات من النظام وحلفائه بحق الشعب السوري وعدم الإفلات من العقاب، وفق بيان صادر عن الهيئة. وكان المندوب الروسي في مجلس الأمن استخدم حق النقض “الفيتو”، السبت الفائت، ضد مشروع القرار الفرنسي – الإسباني.
ولم تقتصر جهود المعارضة السورية على الأمم المتحدة، إذ وجّه رئيس الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السورية أنس العبدة، رسالة إلى الأمين العام لمنظمة التعاون الإسلامي إياد أمين مدني، طالبه فيها ببذل جهود في المحافل الدولية لوقف الجرائم التي تحدث في سورية. وأشار الائتلاف الوطني، في بيان أمس الثلاثاء، إلى أن العبدة أكد في رسالته ضرورة قيام المنظمة بدور في المحافل الدولية لوضع حد للمأساة الإنسانية، ووقف الجرائم المرتكبة بحق السوريين خصوصاً في مدينة حلب، لإنقاذ حياة أكثر من 300 ألف مدني محاصرين فيها تفتك بهم طائرات روسيا والأسد والمليشيات المتعددة الجنسيات.
كما طالب العبدة منظمة التعاون الإسلامي بتسليم مقعد سورية في المنظمة للائتلاف الوطني كونه الممثل الشرعي للشعب السوري وفق قرارات جامعة الدول العربية، مشيراً إلى أن القوات الروسية قتلت منذ تدخلها في سورية قبل عام 3264 مدنياً، بينهم 911 طفلاً و619 امرأة، وارتكبت أكثر من 169 مجزرة مستهدفة ما لا يقل 417 مركزاً حيوياً، بينهم عشرات المستشفيات والمراكز الطبية وقوافل المساعدات. ولفت العبدة في رسالته إلى أن روسيا استخدمت الأسلحة المحرمة دولياً خلال القصف، وتم تسجيل 147 هجمة روسية بالذخائر العنقودية و48 هجمة بالأسلحة الحارقة.
أما النظام من جهته، فلم يتوانَ عن توجيه انتقادات للأمين العام للأمم المتحدة بان كي مون. واعتبرت وزارة خارجية النظام، في بيان، أن بان كي مون “أكد مرة جديدة فشله في احترام أبسط المتطلبات التي توجبها المسؤولية المناطة به، وأهمها الصدق والنزاهة والاستقلالية”، قائلة إنه “ارتضى لنفسه التصرف وفق سياسات بعض الدول إزاء سورية وهو يتحمل مسؤولية قانونية وأدبية في ما آلت إليه الأوضاع عندما وفر مع البعض إحدى مظلات الدعم السياسي للإرهاب التكفيري”.
العربي الجديد