لم تبد الإدارة الأميركية الحالية برئاسة دونالد ترامب أي تخصص في شأن الأزمة السورية. وقد يبدو الأمر منطقيا في سياق حالة التشكل والتموضع التي تنشغل بها إدارة الرئيس الأميركي الجديد، لكن بعض العارفين والمراقبين لاستراتيجيات الولايات المتحدة في المنطقة يتوقعون أن يتمدّد حال الإغفال الأميركي للشأن السوري، على أن يتم ذلك من خلال الاستفادة من التقدّم الروسي في هذا المضمار والبناء عليه.
وتلفت أوساط راقبت عن كثب مؤتمر أستانة بين وفدي النظام والمعارضة، أن موسكو أرادت لهذا اللقاء أن يكرس احتكار روسيا للملف السوري، لا سيما أن الحدث جاء تتويجا لمسار عسكري دراماتيكي عنيف كانت للقوى الجوية الروسية اليد الطولى فيه.
وترى هذه الأوساط أن المساعي الدبلوماسية الروسية التي أسـّست لمؤتمر أستانة، بما في ذلك المفاوضات التي جرت قبل ذلك في تركيا بين مسؤولين روس وممثلين عن فصائل المعارضة المسلحة، استندت على واقع أمر التفوق العسكري الذي فرضته موسكو والذي أدى إلى سقوط القسم الشرقي من مدينة حلب.
وتضيف هذه المصادر أن وهج القوة العسكرية الروسية هو الذي قاد الفصائل المسلحة للحوار مع موسكو وهو الذي قاد هذه الفصائل للمشاركة في حدث أستانة، وأن ذلك تم بالشراكة مع تركيا وبسبب ضغوط مارستها أنقرة على هذه الفصائل.
وترى هذه المصادر أن وهج هذه القوة أيضا هو الذي أخضع النظام السوري وطهران للالتحاق بالعملية السلمية التي ترعاها موسكو منذ الاتفاق الروسي التركي على وقف إطلاق النار، وهما اللتان (دمشق وطهران) كانتا تعولان على هذه القوة بالذات لحسم أمر النزاع السوري عسكريا.
الغياب الأميركي
يكشف خبراء غربيون في الشؤون الروسية أن موسكو تسعى لاستغلال الغياب الأميركي، الموضوعي أو المقصود، عن الملف السوري لفرض أجندتها على أطراف النزاع السوري الداخليين كما على أطرافه الخارجيين. ويراقب هؤلاء تطور المسار الروسي في هذا الشأن الذي يقوم بتحديث اتجاهاته وفق ردّ الفعل المحلي والإقليمي والدولي. وتضيف هذه المصادر أن موسكو التي كانت تُمنّي النفس بعملية دبلوماسية في أستانة تكون بديلا عن تلك في جنيف، أدركت صعوبة ذلك دوليا فسارعت إلى وضعها كخطوة في الطريق إلى جنيف. ورأت الأوساط أن روسيا تسعى الآن لـ”السطو” على جنيف وتدجين مفاعيله وفق الخطط والرؤى التي يريدها الكرملين.
موسكو تعمل على تعظيم حصة الفصائل المعارضة المسلحة التي شاركت في مؤتمر أستانة داخل وفد المعارضة إلى جنيف
وقد لفت المراقبون الغربيون إلى أن وزير الخارجية الروسي سيرجي لافروف هو أول من أعلن عن تأجيل موعد انعقاد مؤتمر جنيف الذي كان من المزمع عقده في 8 من الشهر الجاري، وهو خبر فاجأ المبعوث الأممي إلى سوريا ستيفان دي ميستورا الذي قالت متحدثة باسمه إن أمر ذلك يحدد بعد أن يلتقي دي ميستورا بأمين عام الأمم المتحدة الجديد أنطونيو غوتيريس. ورأى هؤلاء أن التأجيل الذي تمّ فعليّا لمؤتمر جنيف يعكس إذعان المنظمة والمجتمع الدوليين للأجندة الروسية في هذا الملف طالما أن لا شريك وازن في هذا الإطار.
وتتحدث أوساط المعارضة السورية عن أن روسيا تعمل على تطويع كل العملية الدبلوماسية بشقيها في كازاخستان وسويسرا لإنتاج الحل الذي تراه موسكو مناسبا للخروج من المأزق السوري. وترصد هذه الأوساط أن المناورات الروسية تعمل على إغراق الجسم المعارض بكم متعدد ومتفرق من الاجسام المعارضة، او المسماة معارضة، لكي تتجاوز الواقع المعارض الذي ظهر في فترة الشراكة بين وزيري الخارجية الروسي سيرجي لافروف ونظيره الأميركي جون كيري. وترى هذه الجهات أن التشكيك الروسي في تمثيل الهيئة العليا للمفاوضات للمعارضة السورية ومحاصرتها بمنصّات المعارضة الأخرى (القاهرة، حميميم، أستانة، موسكو… إلخ) هدفه سحب البساط من مفاعيل مؤتمر الرياض وما انتجه من جسم تمثيلي، كما سحب البساط أيضا، وهنا جسامة الأمر، من كل المرجعيات الدولية السابقة التي أنتجت عملية جنيف.
وتلفت هذه الأوساط إلى أن موسكو، وربما بالشراكة مع أنقرة، تعمل على تعظيم حصة الفصائل المعارضة المسلحة التي شاركت في مؤتمر أستانة داخل وفد المعارضة إلى جنيف، بحيث تكون حصتها وازنة في وفد يضم أعضاء من الهيئة العليا للمفاوضات وليس برعاية هذه الهيئة.
وتعترف هذه الأوساط بأن ما حققته روسيا نجح في اللعب على الحساسيات بين الجناح السياسي والعسكري للمعارضة السورية، لكن هذه الأوساط ترى أن نجاح موسكو سببه أيضا تواطؤ أو صمت إقليميين يسحب السقوف التي كانت تتظلل بها التشكيلات المعارضة.
وكان وزير الخارجية السعودي عادل الجبير أكد، في مؤتمر صحافي عقده الأربعاء مع نظيره التركي مولود جاويش أوغلو، في ختام اجتماع مجلس التنسيق التركي السعودي، بالعاصمة أنقرة، على أهمية مباحثات أستانة حول سوريا، كخطوة من أجل تثبيت وقف إطلاق النار، وإرسال المساعدات الإنسانية إلى هذا البلد.
واعتبر الجبير الأمر علامة من علامات المواكبة التي تقوم بها الرياض للجهد الروسي (بالشراكة مع تركيا). ولفت المراقبون إلى أن الجبير، وإن كان أشار إلى ضرورة مجيء حكومة تتماشى مع تطلعات الشعب السوري، إلا أنه شدد على أن “تدخلات إيران والمجموعات الأجنبية الإرهابية المرتبطة بها عقّدت الحل في هذا البلد”، بما يعكس، حسب هؤلاء المراقبين، الهاجس الحقيقي للرياض داخل المسألة السورية.
تعمل موسكو، وربما بالشراكة مع أنقرة، على تعظيم حصة الفصائل المعارضة المسلحة التي شاركت في مؤتمر أستانة داخل وفد المعارضة إلى جنيف
انقلاب على مرجعيات المفاوضات
لكن المتابعين للشؤون السورية يلاحظون أن روسيا التي تهيمن على السياق الشكلي للمفاوضات بين النظام والمعارضة، تذهب باتجاه إحداث انقلاب في مضامين أجندة المفاوضات من خلال الانقلاب على مرجعيات هذه المفاوضات، سواء في تلك الصادرة داخل سلسلة اجتماعات جنيف أو تلك التي سنّها قرارا مجلس الأمن 2218 و2245.
ويرى هؤلاء أن طرح روسيا لمسودة دستور على فرقاء النزاع، هدفه قلب الأجندات السابقة والدفع باتجاه نقاش نصّ دستوري بشكل سابق على أي فترة انتقالية. كما أن النص المقترح لا يلحظ هيئة حكم انتقالي تناط بها كافة صلاحيات الحكم، إضافة إلى أن بنود الدستور المقترح تستبطن استمرارا للرئيس السوري بشار الأسد في منصبه الحالي حتى نهاية ولايته مع إمكانية ترشحه لولايتين لاحقا.
لكن محللين روسا يرون أن موسكو غير متمسكة بالأسد على رأس السلطة وأن طرحها لمسودة الدستور هدفه إنتاج وثيقة بالإمكان الانطلاق منها بما يؤمن بداية تغيير بالنسبة إلى المعارضة وما يطمئن النظام ورأسه بأن التغيير لا يعني الإطاحة بهما.
ويضيف هؤلاء أن خروج تقرير منظمة العفو الدولية الخاص بالمجازر التي طالت 13 ألف سجين معارض في سجن صيدنايا، قد يمثل إنذارا لروسيا يحدد السقوف التي لا يجب على موسكو تجاوزها مقابل تعاون المجتمع الدولي مع مقاربتها السورية.
ورصدت هذه الأوساط في هذا الشأن رد فعل لندن وباريس على تقرير أمنستي من حيث ضرورة ألا يكون مكان للأسد على رأس البلاد في أي تسوية مقبلة، كما رصدت تحفّظ الجامعة العربية، بما في ذلك الأردن، على جهود وزير الخارجية الروسي في أبوظبي لإعادة الاعتراف بالنظام السوري داخل المنظومة العربية الإقليمية.
إلا أن خبراء غربيين في شؤون الشرق الأوسط يلفتون إلى أن المسعى الروسي يبقى نظريا وقد لا يحقق أهدافه القصوى، لكنه يبقى الأكثر نفوذا حتى الآن. ويدعو هؤلاء إلى الأخذ بعين الاعتبار الاقتراح الذي تقدم به الرئيس الأميركي دونالد ترامب لإقامة مناطق آمنة في / وحول سوريا، وما يمثله الأمر من انقلاب للمعطيات الجيواستراتيجية في المنطقة.
وتعتبر هذه الأوساط أن تنفيذ الاقتراح الأميركي الذي حظي بدعم مبدئي خليجي وتركي وروسي يعني أن الولايات المتحدة ستكون شريكا ميدانيا لروسيا وتركيا في سوريا، وهو ما سيخفف من الاحتكار الميداني، وبالتالي الدبلوماسي الحالي، الذي تهيمن به موسكو على الملف السوري. وتضيف هذه الأوساط أن تقديم تركيا خطة عسكرية لطرد داعش من الرقة، قد يقلب الموقف الأميركي الداعم لقوات سوريا الديمقراطية وحزب الاتحاد الديمقراطي ويوطد الموقف التركي داخل أي تسوية نهائية للوضع في سوريا.
ويلفت الخبراء إلى أن ملف الإعمار في سوريا يلقي بثقله على حظوظ روسيا في تمرير رؤيتها السورية حسب رواية مسودة الدستور والانخراط في رسم مشهد وهوية اللاعبين في جنيف. ولئن تنتظر روسيا حصة كبرى من ملف الإعمار في سوريا، إلا أنها تدرك أن الممولين الكبار في الإقليم والعالم، لا سيما الدول الخليجية والأوروبية، قد لا يقدمون على أي استثمار داخل تسوية سورية تبقي بشار الأسد على رأس الحكم في سوريا. ويضيف الخبراء أن روسيا تدرك ذلك وهي جاهزة لتحديث تكتيكاتها بما يتناسب مع التموضعات الجديدة التي تفرج عنها كل يوم مواقف الإدارة الأميركية وانعكاساتها على عواصم العالم.
وفي هذا الخصوص، تجمع المراجع الدبلوماسية الدولية على أن التصعيد الجاري حاليا بين الولايات المتحدة وإيران سيتداعى مباشرة على كافة أوجه النفوذ الإيراني في المنطقة، لا سيما في سوريا، وأن إمكانيات الصدام أو الوصول إلى نقطة توازن جديدة بين البلدين، ستخرج إيران نهائيا من دائرة النفوذ داخل سوريا أو بالحد الأقصى جعله متواضعا لا يملك مفاعيل التشويش على التفاهمات الكبرى. وفي حين ترى مصادر روسية أن هذا التوتر يرفع من مستوى ليونة إيران واتّساقها مع خطط روسيا، إلا أن نفس المصادر تتخوف من انفلات الأمور، بحيث لا تعود المناورات الروسية الحالية في أستانة أو جنيف ناجعة للإمساك بالوضع السوري على الطريقة التي يطمح إليها سيد الكرملين.
العرب اللندنية