إياد أبو شقرا – الشرق الأوسط
قبل أن ينجلي ركام الضربة الأميركية التي نُفذت بدعم بريطاني وفرنسي على مواقع داخل سوريا، كانت التساؤلات تتمحور حول أمرين اثنين: حجم الضربة، والغاية الحقيقية منها. ولكن ما لا يمكن تجاهله أيضاً توقيت هذه الضربة قبل ساعات معدودات من انعقاد القمة العربية التاسعة والعشرين في الظهران بالمملكة العربية السعودية.
الواقع أنه ما كان ممكناً أن تكون الأجواء المحيطة بالقمة أكثر اضطراباً، على عدة مستويات. في الخليج وشبه الجزيرة هناك ملف قطر والدعم الإيراني للانقلاب الحوثي في اليمن. وعلى مستوى الشرق الأوسط ككل هناك الصورة الأكبر لتقاطع المخطّطات وتضاربها – وأحياناً تكاملها – على حساب شعوب المنطقة. ودولياً تعود ملامح «الحرب الباردة»، ولو بشيء من الخجل تارة، والابتزاز المتبادل تارة أخرى، وتهرب حتى الديمقراطيات الغربية بمؤسساتها السياسية والحزبية العريقة إلى التطرّف والشعبوية… وصولاً إلى العنصرية.
ملف قطر لا يشكل أكثر من تفصيل بالنسبة لأمن الخليج ككل، غير أن ملف التدخل الإيراني خليجياً بلغ حقاً مرحلة غير مقبولة، بعدما تراكم وتفاقم لسنوات نتيجة لتعمد الإدارة الأميركية السابقة التغاضي عن طموح طهران، وتأخّر تنبّه أطراف يمنية وأخرى عربية لانعكاسات هذا الطموح في الداخل اليمني. فالمناطق الحوثية المتمردة على قرارات الشرعية والمبادرات الخليجية، ناهيك من مخرجات الحوار الوطني اليمني، هي اليوم منصّات إيرانية لإطلاق صواريخ ونشر التأجيج المذهبي في منطقة حسّاسة من العالم العربي. ولا ينفصل الدور المسند إلى الحوثيين عن أدوار أخرى مماثلة وزعتها طهران على أتباعها، ودعمتها بالمال والسلاح والتدريب والإعلام، ونجحت حتى الآن في فرض هؤلاء الأتباع أرقاماً صعبة على المعادلة السياسية في غير بلد عربي.
وهنا، لا بد من مقاربة المشهد العربي ككل. ومما يؤسف له أن لا تراجع في حالة الانقسام، سواءً بالنسبة للملف الفلسطيني، أو الملف السوري، أو مكافحة التطرّف والإرهاب، أو احتواء التدخلات الإقليمية في المشرق العربي… وهذه تدخلات ما كان ممكناً أن تحدث لولا وجود احترام حقوق الإنسان والمواطنة السليمة في أسفل قائمة الأولويات. بل إن جزءاً من الإشكالية هو أن ثمة أطرافاً عربية ترى أن احترام حقوق الإنسان والمواطنة السليمة يتعارض مع مكافحة التطرف والإرهاب. وبالتالي، تدخل «نفقاً مظلماً» من التناقضات التي تنسف حقوق الإنسان من جهة، وتخدم المتطرفين – وبالتحديد، الجماعات التي ترفع شعارات إسلامية متشددة – بإعطائها صدقية لا تستحقها.
هنا أيضاً تتقدم عند بعض العرب القوالب على الجوهر، والشعارات الطنانة الفارغة على الأسس التي ينبغي أن يقوم عليها التعايش الكفيل بتحصين الكيانات العربية من الداخل. ومن ثم، فإن هشاشة الداخل لا بد من أن تشجع أطماع الخارج، وهذا ما نراه راهناً في العراق وسوريا ولبنان وفلسطين.
قبل بضعة عقود قال مفكر فلسطيني مهاجر إن ابتعاد الفلسطينيين عن مفهوم الدولة المنفتحة المتسامحة والديمقراطية هو في صميم مصلحة اليمين الإسرائيلي. ورأى أن ظاهرة مثل «حماس» – من دون علمها – تريح هذا اليمين، سواءً على صعيد جهود التعبئة الداخلية، أو صعيد كسب التعاطف في الخارج. وفي حسابات هذا اليمين أن الجنوح نحو التشدّد الديني والتشدّد المضاد في الأراضي المحتلة يبرّر من حيث لا يدري الخطاب الاستيطاني بحجج توراتية. ومن ثَم يحوّل قضية إنسانية لا جدال في عدالتها إلى صراع لا ينتهي بين ديانتين تختلط معه الصورة بين الظالم والمظلوم .
في سوريا، الوضع ليس أقل سوءاً منه في الأراضي الفلسطينية، غير أن المقاربة العربية له غدت أكثر التباساً وغموضاً، بعد ظهور تعقيدات في المشهد العام بعضها مخطط له. ذلك أنه عندما بدأ نظام بشار الأسد التصدّي للمظاهرات الشعبية السلمية، كان هناك شبه إجماع عربي على الوقوف مع الشعب. وانعكس هذا بشعور أنظمة عربية مؤيدة لنظام دمشق بالحرج إزاء مناصرته علانية. وبالفعل، في البداية، اتخذت جامعة الدول العربية عدة إجراءات مبدئية وشجاعة، بينها تعليق عضوية سوريا وسحب السفراء، ولم تقف في صف النظام إلا الدول التي تهيمن عليها إيران ودول قليلة أخرى لاعتبارات مختلفة. بل حتى روسيا، التي انكشف لاحقاً موقفها الحقيقي، ادعت حينذاك أنها لا تدعم نظام دمشق لكنها تسعى إلى تسوية سلمية.
هنا، اختار نظام دمشق الهروب إلى الأمام، مصعّداً القمع الدموي والابتزاز بورقة التطرف والإرهاب. وبالتوازي، بدأ الانحسار التدريجي للأصوات العاقلة والمستقلة في قوى المعارضة والثورة السورية إثر تعمّد جهات عربية وإقليمية تهميشها وإبعادها تدريجياً لمصلحة جماعات متشدّدة محسوبة عليها. وجرى تبرير ذلك بالتصدّي للتدخل الإيراني الميداني، أولاً عبر «حزب الله» اللبناني، ولاحقاً عبر الميليشيات الإيرانية والعراقية والأفغانية والباكستانية المقاتلة تحت رايات طائفية صارخة.
من جهة أخرى، إخفاقات بعض تجارب «الربيع العربي»، وتغيّر نظرات كثيرين إلى جدواه ومنافعه بعد الذي حدث في ليبيا واليمن، وتعجّل الإسلام السياسي التمكين في مصر، أيضاً كانت عوامل أعطت دفعة لآلة الأسد القمعية لكي تمضي أبعد في مجازرها، واستثمارها في «التغيير الديموغرافي». ودولياً، كسب نظام دمشق وداعموه الكثير عام 2013 بسقوط «الخطوط الحمراء» الوهمية التي كان أعلنها الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما. وبدا واضحاً مع هذا التطوّر الخطير أن أوباما كان أحرص على التفاهم مع «ملالي» طهران، وإطلاق يدها في الشرق الأوسط، من اكتراثه بمصير السوريين.
بالأمس، شاهدنا في سوريا مجدداً رد فعل مختلفاً من إدارة دونالد ترمب، خلف أوباما، مع أنه كان أكثر من رسالة وأقل من ضربة. وأمام القمة العربية أن تقرأ هذه الرسالة جيداً مع أنها موجهة في المقام الأول إلى موسكو.
التحصين الداخلي يجب أن يكون رأس الأولويات إزاء تغيّر المعطيات والمعادلات، وسقوط العديد من الأوهام عند تعريف الحلفاء والخصوم.
وهذا التحصين لا بد أن ينطلق من الوعي بطبيعة الأخطار المحيطة بالمنطقة وكياناتها، وإدراك «ديناميكيات» اللعبة السياسية والمصالح الضيقة والكبرى المرتبطة بها، وحبذا حدوث ذلك قبل ضياع الفرصة الأخيرة.