مازلت أذكر هذا التاريخ جلياً 15/1/2013، ذلك اليوم الدموي الذي فقدت فيه أصدقائي بقصفٍ طال كلية العمارة من قِبل الطيران الحربي التابع للأسد منذ تسع سنوات.
“مصطفى” ذو ال 30 عاما ، ابن مدينة حلب من أم حموية يروي قصته وقصة اليوم المشؤوم كما وصفه.
أنا من سكان السريان القديمة، طالب جامعي في السنة الثانية في كلية الهندسة المعمارية، كنت مواظباً على الوقوف مع أبناء بلدي في “ثورة الياسمين”، وكنت أحد طلاب هندسة العمارة.
خرجت بمظاهرات عِدة أنا وأصدقائي من الديانات الأخرى، الذين فقدت منهم 6 أشخاص من المجموعة “الشلة”.
استيقظت صباحاً الساعة الثامنة استعداداً لامتحاني الجامعي في كلية العمارة بعد سنتين من نجاحي بمعدلات ممتازة، ذهبت إلى الجامعة بعدما أوقفت سائق الأجرة وكان الشؤم يلاحقني وأنا غير مطمئن بيومي هذا.
انتظرت رفاقي عند مدخل الجامعة لنشرب القهوة قبل دخولنا لقاعة الامتحان، لكن كان لطائرات الأسد رأي آخر، صوت صفير والغبار ملأ الأجواء والشظايا ملأت المكان.
أصبت بشظايا في كتفاي لكن ألم إصابتي لما يكُ أشد ألماً من فقداني ل أمجد ومحمود وحسن ومراد ومكسيم، ركضت مسرعاً لأتفقد حالهم ورأيتهم جثثا مطروحة مخضبة بالدماء على الأرض، تنهدت للحظة وهمست بصوت خافت هذه ضريبة طلاب الحرية.
“كان الموبايل عم يرن وأنا ماني منتبه، والمتصل هو أمي بدها تطمن علي، وكانت عم تقلي قبل ما اطلع من البيت دير بالك على حالك والله ما بنساك وسلمتك لواحد أحد، وكأنها حاسة بشي رح يصير معي”.
قدِم أبي إلى الجامعة ورآني مخضباً بدماء أصدقائي والأشلاء المتطايرة من جثامين الطلاب حولي، احتضنني بقوة وشدني إلى صدره قائلاً “الحمد لله على سلامتك يا نور عيوني”.
أعادني أبي من المشفى إلى المنزل وأنا في صدمة لا أُحسد عليها، ذاك الوقت كانت أمي منشغلة بمعالجة المصابين في المشفى بحكم أنها طبيبة جراحة.
أعطاني دواء مهدئا ومن ثم غفوت على إثرها، و بعد ست ساعات تقريبا استيقظت على صوت والدة مكسيم وهي ترنم بالترانيم المسيحية، وقالت لي الرب يحميك ولا تزعل على مكسيم هذا ثمن الحرية.
شعرت بالأسى والحزن بعدما رأيت على إحدى القنوات حصيلة القصف الهمجي الذي راح ضحيته أكثر من 100 شهيد، وما حصل بعد القصف من صوت نباح أجندة الأسد والهتاف له، أي بشر هؤلاء ؟؟
بعد ثلاثة أيام اتصال من رقم خاص لوالدي يخبره به الخروج من حلب فوراً بسبب وقوفه مع الثورة وبحسب مجال عمله كمحامٍ.
جمعنا حاجاتنا وجوازات سفرنا وخرجنا مكرهين من أرض شهدت ميلادي، بدأت رحلة السفر إلى لبنان ثم مصر لنستقر نهايةً في تركيا.
عدت إلى المقاعد الدراسية بعد سنتين من العلاج النفسي وتخرجت من كلية الهندسة المعمارية في جامعة غازي عنتاب بمعدل 3.8 من 4 ، وأهديت نجاحي لكل من استشهد في قصف كلية العمارة وحملت الصليب رفقة القرآن الكريم وعلم الثورة في حفل التخرج، لأفجع ثاني يوم بموت والدي نتيجة جلطة قلبية حيث أعدنا جثته إلى عندان مكان ولادته.
تسع سنوات مضت ومازلت أحتفظ بذكرياتهم، صورهم جميعاً، صليب مكسيم، قرآن محمود، رواية أمجد، وعلم الثورة لحسن، ونظارة مراد.
يوم كان هو الأصعب علينا الذي شهدت فيه حلب مقتل طلابها، وبعد تسع سنوات أقول للجميع عاشت سوريا ويسقط بشار الأسد، وسنبقى على العهد لإكمال مسيرة شهداء العلم والحرية، وسنعود لننشر الياسمين على قبور أصدقائنا، والحرية للمعتقلين والعدالة لنا.
قصة خبرية / محمود المعراوي
المركز الصحفي السوري
عين على الواقع