لم تكن موسكو في حاجة فعلية إلى إعلان حلب خطاً أحمر، لن تسمح لأنقرة ولا للفصائل السورية المعارِضة بإسقاطه. فغارات الطيران الحربي الروسي خلال الأيام الأخيرة رسالة صارخة عنوانها أن لا عودة عن دعم نظام الرئيس بشار الأسد. وإذ بدا وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف واثقاً من هامش التحرك العسكري الأميركي في سورية بحيث لا يتجاوز قصف أهداف “داعش”، لم يرَ ما يحرج الأميركيين في إطلاقه وعداً بعدم السماح بانهيار ما بقي من سلطة للنظام وجيشه في حلب ومحيطها.
لا مفاجأة لواشنطن، يؤكد لافروف، ثم يلتقط الأسد الرسالة، ليصرّ بعد ساعات على “تحرير كل شبر من سورية، من الإرهاب”، وهو في قاموس النظام يعني أولاً “الخونة” المعارضين كما يعني “داعش” و “جبهة النصرة”. وواضح أن الأسد في خطابه أمام برلمان انتُخِب في “مناطق النظام”، كان حريصاً على ثلاث رسائل:
– الأولى موجّهة إلى الروس مجدداً، وفحواها أن “الانتصارات” التي تحققت بمساعدتهم خصوصاً، تستكمل بسحق كل مَن يرفع السلاح، علماً أن مطلب التمييز بين فصائل معتدلة وأخرى “إرهابية”، يتقدّم ويتوارى تبعاً لإيقاع الكرملين في إدارة ملف مسار جنيف التفاوضي.
– الثانية التشديد على نفي وجود اختلافات بين النظام وحليفيه الروسي والإيراني، فيما المرجّح أن المقصود بالدرجة الأولى هو موسكو التي كانت دمشق نفت طرحها مشروع مسودة لدستور سوري جديد. ولم ينسَ الأسد في خطابه الذي نوّه بوقوف الثلاثي الروسي- الإيراني- الصيني معه “لنصرة المظلوم”، أن يخص “المقاومة الوطنية اللبنانية” بتقدير لدورها في الحرب مع “الإرهاب” ولمكافحته.
– الرسالة الثالثة ربما أراد منها الرئيس السوري الشماتة بنظيره التركي رجب طيب أردوغان الذي تهزّ بلاده التفجيرات، فيما تواجه أزمة ثقة مع الأميركيين وأزمة “استعداء” للروس، وثالثة مع الأوروبيين المرتابين إزاء نيات “السلطان” وأهدافه.
تشجَّع الأسد بوعد لافروف الذي يعني عدم السماح بإسقاط حلب في قبضة “السلطان”، وفيما الرئيس السوري مطمئن أيضاً إلى عدم تجاوز الأميركيين خط تمرين العضلات مع “داعش” وحده، تحدى “السفّاح أردوغان” أن يخوض معركة فاصلة في حلب، مستفزّاً إياه بأوصاف مثل “البلطجي الأزعر”.
“ديبلوماسية” الأزعر لغة جديدة سهّلتها تعقيدات متاعب يواجهها أردوغان في الداخل والخارج، وإن كان بعضها نتيجة قراءات خاطئة لأحداث استثنائية في ذروة صراعات إقليمية، فالأكيد أن مواجهة الحلف الروسي- الإيراني- السوري- العراقي أكبر بكثير من تنافُس على النفوذ تخوضه تركيا منفردة ضد أركانه.
وبعيداً من “ديبلوماسية” الحملة على “البلطجي والإخونجي” التي استخدمها الأسد في تحدّي “السلطان” ونظامه “الفاشي”، لا يبدو حديثه عن “العملية السياسية” سوى مجرد استجابة لفظية لرغبة الروس، بينما لا يرى مفاوضاً للطرف الآخر في جنيف. فهل مبالغة القول أن قطار جنيف لن يقلع، وهو بلا عربات أصلاً؟
لا مبالغة كذلك في تلمُّس محاولات الروس صوغ نظام آخر في دمشق، يستطيعون حمايته، وإن عنى الأمر “تكييف” صلاحيات الرئيس بدستور جديد يتيح للمعارضة “المدجّنة” ادعاء شراكة في الحكم. وربما عبّر الخطاب عن رفض متجدّد لأي محاولة لتقليص صلاحيات الرئيس، غلّفه الأسد برفض مشاريع الخارج.
والكرملين في سعيه إلى “اختراع” نظام متكيّف في دمشق، ألا يسعى إلى تكرار نسخة من الوصاية الإيرانية على بغداد، ولو معدّلة؟… هجينة في العراق، مهجّنة في سورية؟
من شؤون الحلف الرباعي، أن تجدد طهران عرضها تحويل “الحشد الشعبي” الشيعي في العراق، المتهم بالتنكيل ببعض السنّة، إلى “حرس ثوري” آخر سيكون القبضة الحديد التي تستتبع حتماً مرشداً لبلاد الرافدين، يحكم في رعاية خامنئي.
تلك مجرد محطات في المسار الدموي على أرض سورية والعراق… قتل وإبادة، إرهاب ومجاعة، حشود مشرّدين و “حشود” إيرانية الهوى ما زال “داعش” يقدّم لها الهدايا المجانية.
يخطب الأسد في البرلمان مطمئناً إلى دور الروس في شطب وطنية المعارضة ودور الأميركيين في تكييف مسرح المواجهة مع “داعش”. لم يحِن بعد أوان الصفقات ولا رسم الخرائط، وكلما طالت فصول التدمير والمجازر، تضخّم رهان “المستشار” الإيراني على الوصاية الناجزة بين دجلة والفرات. وأما الأطراف بالنسبة إليه، فما عليها إلا أن تتريّث، أو تدفع فاتورة مشاكسة “إمبراطورية” الحلف الرباعي الطامحة إلى رسم ملامح نظام عالمي مختلف.
ومرة أخرى، قد يجوز تفسير مآسي السوريين والعراقيين بالتقاء مصالح ديكتاتورية غبية وطموحات تكاد تكون انتحارية، لولا القرار الأميركي بإخلاء المسرح والتصفيق للضحايا.
الحياة