لا يبشر حصاد 2015 بخير عربياً. فحتى ولو تركنا حالة التأزم السياسي والتعفن الأمني جانباً، فإن بقية المجالات في أسوأ حال، كما هو شأن الوضع الاقتصادي المتردي، بفعل عقود من سوء التصرف في المال العام، على الرغم من المداخيل النفطية التي بلغت مستويات غير معهودة في أكثر من عقد.
ويفضح تهاوي أسعار النفط في السوق العالمية مجدداً مدى هدر دول النفط العربية الإمكانات المتاحة، ليعلنوا سياسات تقشف لسد العجز في الميزانيات بعد سنوات، بل وعقود من التبذير وسوء التسيير، ما جعل مستقبل الشعوب المعنية على المحك.
تعامل الحكام في الدول الريعية مع هذه الطفرة النفطية وكأنها القاعدة، وليست الاستثناء، حيث صرفوا أموالاً طائلة في مجالات غير منتجة، وعمقوا التبعية للمحروقات التي تثمل صادراتها حوالى 95% من إيرادات هذه الدول. وعلى الرغم من الأزمة المالية لعام 2008 التي سرعان ما تحولت إلى أزمة اقتصادية، وتسببت في إفلاس دول عديدة، مهددة حتى العمران الأوروبي، بسبب الأزمة اليونانية، فإن القائمين على الشأن العام في الدول النفطية التي تتمتع بوضع مالي مريح للغاية (مع احتياط هائل من العملة الصعبة) لم تتخذ الإجراءات الضرورية، ولم تقم بإصلاحات جوهرية، بالاعتماد على المداخيل الضخمة لإصلاح الاقتصاد والتقليص التدريجي المبرمج للاعتماد على النفط، وإعداد خطة استراتيجية لمرحلة ما بعد النفط.
بل قامت بالعكس من ذلك، فارتفاع أسعار النفط دفعها إلى مزيد من الاستثمارات في قطاع المحروقات، للرفع من إنتاجها، وبالتالي، قدراتها التصديرية ضاربة بعرض الحائط التنمية المستدامة، ورهنت مستقبل الأجيال الصاعدة، بعد أن ضحت بمستقبل الجيلين السابق والحالي.
كما ساعد بعضها دولاً ومؤسسات غربية مالياً بشكل مباشر أو غير مباشر، ولم يتردد الخطاب الرسمي في هذه الدول، وبنبرة فيها نرجسية سياسية ويقين كثيران، في القول إن هذه الدول في منأى عن الأزمة العالمية! كيف بدول تحدد أسعار 95% من قوتها في السوق الدولية أن تقول بهذا؟ وبما أن السنوات الأخيرة من الطفرة النفطية تزامنت مع أحداث الربيع العربي، هرولت الدولة الريعية إلى الرفع من حجم الغلاف المالي المخصص لشراء السلم الاجتماعي، حتى تقي نفسها عدواه.
أما إقليمياً، فيوظف بعضها مداخيل النفط لإجهاض الربيع العربي وفي تمويل ودعم تدخلات
“توظف بعض الدول الإقليمية مداخيل النفط لإجهاض الربيع العربي وفي تمويل ودعم تدخلات وحروب في دول عربية” وحروب في دول عربية، خصوصاً مع ارتفاع ملحوظ في ميزانيات الدفاع والأمن الداخلي. إنها مفارقة مع سبعينيات القرن الماضي، لما وظف الريع النفطي بعد حرب أكتوبر/تشرين أول 1973 في التخفيف من حالة الاستقطاب الإيديولوجي العربي البيني، وفي الحد من حالة الاحتراب إقليمياً. أما اليوم فأصبح مصدراً أساسياً لتمويل الصراعات والحروب داخل أكثر من دولة عربية، ولتمويل تدخلات دولية بغطاء عربي و/أو تدخلات عربية بينية. هكذا يوظف الريع في افتعال صراعات مذهبية وتغذيتها في العالم العربي.
ففي وقتٍ تعرف فيه الأمم المتقدمة نشاطاً متزايداً للمجتمع المدني، وكل ما يحمله من معاني المواطنة ومشاركة المواطن في تسيير الشأن العام، وحقه في مساءلة المنتخبين ديمقراطياً، لازال العالم العربي يسير بعقلية الملل والنحل التقليدية.
هكذا تهدر الإمكانات الضخمة بصرف أموال طائلة للحفاظ على الوضع القائم، على الرغم من سوئه وعدم استقراره. ولا نبالغ إذا قلنا إنه لم يسبق أن صرفت أمة من الأمم للحفاظ على وضع قائم هو أصلاً مختل، كما صرف العرب.
بالطبع، هناك من يقول إن هذه الدول تطورت وشيدت كذا وكذا… صحيح، ولكن، يخلط هؤلاء بين التحديث المادي والحداثة، هذا إذ قبلنا بأن ما حدث يعد فعلاً تحديثاً، خصوصاً أن برامج التنمية والبنى التحتية في الدولة النفطية العربية مكلفة للغاية (ابتلعت أموالاً ضخمة، وكانت وكراً للفساد على نطاق واسع، فضلاً عن عدم استجابتها للمعايير الدولية) ولم تأت أكلها. فلا توجد أي دولة عربية نفطية، على الرغم من مداخيلها النفطية، خرجت من دائرة التخلف.
لكن، مع تهاوي أسعار النفط ونزولها إلى حدود 40 دولاراً للبرميل الواحد، استفاقت الدولة النفطية، محاولة اللعب في الوقت بدل الضائع، بإقرار سياسة التقشف لسد العجز المزمن في الميزانية، بعد سنوات، بل وعقود، من التبذير وسوء التسيير، ما جعل مستقبل الشعوب المعنية على المحك. حيث صادقت على ميزانيات جديدة، رفعت بموجبها، ولأول مرة، أسعار الوقود فضلاً عن الكهرباء والغاز والمواد الأخرى.
لكن، كيف بدول عجزت في تصحيح اختلال ميزانياتها (ذات العجز المزمن) في زمن البقرات السمان أن تنجح في ذلك، في زمن البقرات العجاف؟ حظوظها ضئيلة جداً، خصوصاً أن التقشف يمس الإنفاق العام الذي يستفيد منه الشعب، من دون الطبقة الحاكمة، وهي ضخمة في بعض الدولة.
بالإضافة إلى ذلك، السلم الاجتماعي الذي تنفق عليه الدولة النفطية مبالغ طائلة سنوياً يوجد على المحك، لأنه يقوم على عقد بسيط: السكوت مقابل مزايا مادية.
وإن توقفت هذه الأخيرة فلم يعد هناك مبرر للسكوت.
إنها معادلة بائسة، تعبر عن بؤس السياسة في دول زمننا العربي، فالدولة النفطية أخلت بالتزامها بموجب هذا العقد البائس، وعليها أن تتوقع الأسوأ في الأشهر المقبلة.
وبما أن حظوظ نجاح سياسة التقشف ضئيلة، خصوصاً أنها لا تستند إلى برامج إصلاحية جوهرية، فإنه من المرجح أن يتصلب عود الدولة الأمنية في البلدان النفطية العربية التي جهزت نفسها (بفضل مداخيل النفط) لمواجهة الشعب، إن هو تجرأ على التعبير عن سخطه واستيائه مما ستؤول إليه الأمور.
وعليه، من المنتظر أن يزداد توظيف مكافحة الإرهاب في إدارة الشأن العام. وهذا طبعاً ليس جديداً، ذلك أن مكافحة الإرهاب حق أريد به باطل.
العربي الجديد