يبدو أن الأفضل للأتراك والكرد التفكير مليا في عدم جدوى الخيار العسكري بعد أن أثبتت التجارب السابقة للصراع بينهما فشل هذا الخيار، وأن الخيار السلمي هو وحده الذي يحقق الاستقرار لتركيا والهوية للكرد.
قواعد جديدة للصراع
الأبعاد الإقليمية والدولية
مفاوضات أم حرب شاملة؟
بعد نحو سنتين من إطلاق عملية السلام بين الحكومة التركية وحزب العمال الكردستاني عادت أخبار المواجهات بين الجانبين تتصدر عناوين وسائل الإعلام التركية والكردية، فوعد زعيم حزب العمال الكردستاني بانتهاء عهد الرصاص إلى غير رجعة لم يتحقق، مع أن فوز حزب الشعوب الديمقراطي الموالي للكرد في الانتخابات البرلمانية ودخوله مجلس الأمة (البرلمان) بشّر بعهد جديد من المشاركة الكردية في الحياة العامة التركية.
عليه، فإن التصعيد الجديد أثار أسئلة كثيرة عن التوقيت، وعن مستقبل عملية السلام بين الجانبين، على نحو هل فشلت العملية وذهبت إلى غير رجعة؟ أم أن هدف التصعيد هو وضع قواعد جديدة للصراع بعد أن أحست تركيا بخطر الصعود الكردي في الداخل وعلى حدودها الجنوبية (سوريا) وتحول حزب العمال الكردستاني إلى دولة على الأرض تمتد من جبال قنديل إلى تخوم المتوسط؟ واستطرادا، ماذا عن دور العامل الإقليمي المرتبط بالأزمة السورية في زيادة حدة التصعيد الجاري؟
قواعد جديدة للصراع
في الواقع، رغم ضراوة الحرب المندلعة حاليا، فإن ثمة قناعة دفينة لدى الجانبين التركي والكردي بأن النهج العسكري لن يؤدي إلى نتيجة أو حل، فجولات القتال السابقة بين الجانبين انتهت بالفشل بعد أن كلفت أعدادا كبيرة من الضحايا وتدميرا هائلا للبنى التحتية وهدرا للأموال، حيث تشير التقارير التركية إلى أن الحرب ضد الكردستاني منذ عام 1984 حتى الآن كلفت أكثر من خمسمئة مليار دولار، وهو مبلغ كاف لتحقيق نهضة اقتصادية واجتماعية في المناطق الكردية في جنوب شرق البلاد، وأمام هذه القناعة فإن السؤال الجوهري هنا يتعلق بخلفيات التصعيد الجديد وكيفية العودة إلى طاولة الحوار من أجل سلام منشود يحقق الاستقرار لتركيا والهوية القومية للكرد.
عقب الانتخابات البرلمانية الأخيرة وجد الرئيس رجب طيب أردوغان نفسه أمام مشهد كردي مغاير؛ إذ وجد أن حدود بلاده الجنوبية (سوريا) باتت مع إقليم كردي تحت سيطرة حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي، الفرع السوري لحزب العمال الكردستاني، كما وجد أن الأخير بدلا من أن يسحب ثقله العسكري من الداخل التركي يخطط لإقامة إدارة ذاتية في جنوب شرق تركيا، حيث الأغلبية الكردية، بينما تحول جناحه السياسي (حزب الشعوب الديمقراطي) -الذي دخل البرلمان بعد أن تجاوز العتبة الانتخابية- إلى قوة سياسية ودستورية، وسط شكوك عميقة بأنه على علاقة سرية بقيادة الكردستاني في جبال قنديل.
ولعل ما زاد الهواجس التركية هو ارتفاع معدل العمليات والإجراءات الأمنية التي يقوم به حزب العمال الكردستاني في الداخل من جباية للضرائب وإقامة حواجز أمنية في المناطق الريفية وحفر للخنادق.
في المقابل، فإن الكرد الذين انتظروا طويلا لتقوم الحكومة التركية بخطوات عملية لدفع عملية السلام إلى الأمام، لا سيما الإفراج عن عبد الله أوجلان والاعتراف الدستوري بالكرد وحقوقهم القومية، وجدوا أنها تمارس سياسة أقرب إلى تمرير الوقت والتهرب من الاستحقاقات وعدم الجدية.
وزادت تصريحات أردوغان بعدم وجود قضية كردية، وتنصله من بيان السلام الذي عرف ببيان قصر (دولمه باهجه) بين الحكومة التركية وحزب الشعوب الديمقراطي من قناعة الكرد بأهمية التصعيد السياسي والأمني لوضع الحكومة أمام معادلة: إما الاستجابة للمطالب الكردية أو الدفع نحو التفجير، ولعل ما رجّح الخيار الأخير هو فقدان الثقة وغياب الجدية والحالة الكردية التي نشأت عن الأزمة السورية، إذ برزت كل هذه التطورات على شكل رهانات يمكن البناء عليها لتحسين الموقع التفاوضي، وعليه كانت العمليات العسكرية التركية ضد مواقع الكردستاني في العراق وتركيا مقابل تصعيد الأخير عملياته في الداخل على شكل استهداف جنود ومقرات أمنية وحكومية، تدشينا لمرحلة جديدة من الدم والدمار والشقاق القومي.
في ذروة الغارات التركية على مواقع الكردستاني حرص المسؤولون الأتراك، لا سيما أردوغان وأحمد داود أوغلو، على القول إن عملية السلام لم تمت، وإن شرط العودة إليها هو ترك الحزب الكردستاني السلاح، بينما أكد الأخير مرارا أنه مستعد للسلام شرط أن يوقف الجانب التركي عملياته العسكرية ضده ويلتزم باتفاق عملية السلام والسماح بزيارة زعيمه أوجلان في السجن.
هذا الحرص الضمني من الجانبين على الرغم من ضراوة المواجهات يكشف عن دوافع الطرفين، ومحاولة كل طرف اتباع قواعد جديدة لإمكانية العودة إلى المفاوضات ولو بعد حين، وعليه يمكن القول إن هدف العملية العسكرية التركية هو إضعاف الكردستاني وشل قدرته على التحرك في ساحات تركيا وسوريا والعراق عبر أجنحته السياسية والعسكرية، وربما دفع إقليم كردستان إلى التحرك ضده خاصة في ظل العلاقة المميزة التي تربط تركيا برئيس إقليم كردستان العراق مسعود البرزاني.
فقد سمعنا للمرة الأولى تصريحات مقربين من البرزاني تدعو حزب العمال الكردستاني إلى الخروج من إقليم كردستان، ولعل الأهم هنا أيضا هو الحد من صعود حزب الشعوب الديمقراطي الكردي عبر إجراءات سياسية ودستورية تؤثر على نفوذه ومصداقيته في الشارع الكردي.
الأبعاد الإقليمية والدولية
لا يمكن النظر إلى التصعيد الجاري بعيدا عن جملة من العوامل الإقليمية والدولية؛ فالكرد وعلى وقع الحرب الجارية ضد تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) باتوا يحسون بأنهم الحليف الأهم للإدارة الأميركية على الأرض في سوريا والعراق، وأن هذا التحالف لا بد أن يرافقه انفتاح سياسي يترتب عليه الاعتراف بشرعية المطالب القومية الكردية، وبدور الكرد كلاعب إقليمي مهم في منطقة الشرق الأوسط.
وعرف حزب العمال الكردستاني كيف يستغل هذا الأمر للقبول به سياسيا في الغرب بدلا من صورته كمنظمة إرهابية، وهكذا تحرك بقوة على الأرض في منطقة سنجار (شمال العراق) وفي المناطق الكردية شمال سوريا وشرقها، ويبدو أن تركيا أدركت هذا المنحى لدى الكردستاني، وعليه جاء انخراطها في الحرب ضد داعش مؤخرا للحد من الاعتماد الغربي على الكردستاني كلاعب في محاربة داعش، خاصة أن تركيا هي عضو في الحلف الأطلسي منذ عام 1952.
إقليميا، مع اشتداد حدة التوتر الإقليمي على خلفية الاصطفاف بشأن الأزمة السورية والتصعيد الروسي ضد تركيا إثر إسقاط الأخيرة مقاتلة روسية، والتصعيد العراقي ضد تركيا على غرار روسيا بعد تدخل قوة عسكرية تركية للتدريب في بعشيقة بالموصل (شمال العراق)، باتت الأنظار تتجه إلى استخدام هذه الدول الورقة الكردية في الداخل التركي كورقة موجعة لحكومة حزب العدالة والتنمية.
وكان لافتا في هذا السياق الاستقبال الحافل في موسكو لزعيم الشعوب الديمقراطي صلاح الدين ديمرطاش، ومن ثم الاجتماع الطارئ الذي عقد مؤتمر المجتمع الديمقراطي في دياربكر، والإعلان عن التوجه لإعلان الحكم الذاتي في المناطق الكردية بجنوب شرق تركيا، ولعل أنقرة التي تنظر بحساسية بالغة إلى حضور البعد الإقليمي في قضيتها الكردية الداخلية تحركت بشكل مسبق لقطع الطريق أمام إقامة حكم كردي ذاتي، خاصة أنها تعتقد بأن مثل هذا الحكم يحمل بداية التوجه الكردي نحو الانفصال.
وعليه، فإن مسار العلاقة بين الحكومة التركية وحزب الشعوب الديمقراطي ممثل الكرد في البرلمان بدأ يتجه إلى الصدام بدلا من المساهمة في إيجاد حل سياسي، وكان لافتا في هذا السياق الهجوم العنيف الذي شنّه رئيس الوزراء التركي أحمد داود أوغلو على زيارة صلاح الدين ديمرطاش لروسيا واتهامه بخيانة الدولة التركية، ومن ثم إلغاء اللقاء الذي كان مقررا معه في 25 ديسمبر/كانون الأول الماضي بدعوى أنه لم يبق شيء للتباحث معه بعد تصريحاته في موسكو، التي انتقد فيها إسقاط أنقرة مقاتلة روسية.
ولعل موقف أوغلو استدعى تصعيدا من قبل ديمرطاش، عندما أعلن أن الكرد ذاهبون إلى إقامة حكم ذاتي ولتفعل الحكومة التركية ما تشاء، وهنا تحس تركيا في العمق بأنها لم تعد في مواجهة مع مشكلتها الكردية في الداخل بقدر ما أنها باتت في مواجهة مفتوحة مع تحالف إقليمي-دولي يتألف من روسيا وإيران والعراق وسوريا وأرمينيا، وأن المطلوب من كل ذلك هو قطع الطريق أمام خيارها في العودة إلى محيطها الحضاري والقيام بدور مؤثر في قضايا الشرق الأوسط.
مفاوضات أم حرب شاملة؟
تقف العلاقة التركية-الكردية عند مفترق طرق، إذ إن المواجهة الميدانية والسياسية باتت سيدة الموقف، فالحكومة التركية تصر على عدم التفاوض مع حزب العمال الكردستاني، ويقول الرئيس أردوغان إنه سيحاربه حتى النهاية وتسليم آخر قطعة سلاح لديه، بوصفه تنظيما إرهابيا، وكثيرا ما يضعه مع داعش في مرتبة واحدة، في حين أن الحزب الكردستاني الذي اختبر السلاح والحروب جيدا لا يجد ما يجبره على تركه سلاحه إلا الاعتراف به ممثلا للكرد والتفاوض معه على الحقوق القومية الكردية وصولا إلى مشاركته في الحياة العامة التركية في إطار اتفاق سلام يجسد في دستور جيد يفسح المجال أمام القومية الكردية في التعبير عن نفسها اجتماعيا وسياسيا وثقافيا.
وعليه، في ظل تباعد مواقف الطرفين، وتمسك كل طرف بموقفه؛ تبدو المرحلة المقبلة أمام سيناريوهين: إما العودة إلى التفاوض بصيغة جديدة، وهي غير متوفرة حاليا، وهنا كل طرف يراهن على جملة من الأوراق لإجبار الطرف الآخر على تقديم تنازلات.
فالحكومة التركية تراهن على أن العمليات العسكرية ستؤدي إلى إضعاف الحزب الكردستاني وتجريده من حاضنته الشعبية، خاصة أن الحرب أثرت على مصالح الناس وأعمالهم وأرزاقهم، مع المراهنة على أن هذه الحرب ستفرز قوى كردية معتدلة في تركيا بمساعدة من رئيس إقليم كردستان العراق مسعود البرزاني الذي يعيش في خلاف سياسي يتعمق هذه الأيام مع حزب العمال الكردستاني.
بينما يرى الأخير أن الحرب ستجعله أكثر تأثيرا في الساحة الكردية، وستجبر الحكومة التركية تحت ضغوط الداخل والخارج على العودة مجددا إلى مفاوضات السلام، ويبدو أن الحزب يراهن على الضغوط الأميركية والأوروبية المطالبة بعودة الجانبين إلى مفاوضات السلام.
في جميع الأحوال، دخلت القضية الكردية في تركيا مرحلة جديدة، ويبدو أن الأفضل للجانبين التفكير مليا في عدم جدوى الخيار العسكري بعد أن أثبتت التجارب السابقة للصراع بينهما فشل هذا الخيار، وأن الخيار السلمي هو وحده الذي يحقق الاستقرار لتركيا والهوية للكرد، ولعل مثل هذا الأمر ينبغي أن يجد طريقه في الدستور الجديد الذي تأمل الحكومة التركية من خلاله وضع نهاية للدستور الذي وضعه العسكر عقب انقلاب عام 1980.
الجزيرة