“الأسد أو نحرق البلد” عبارة كتبها شبيحة النظام في سوريا على جدران درعا منذ اليوم الأول الذي كتب أطفالها على جدار مدرستهم “الشعب يريد …”، ولأنهم لا يريدون للشعب أن يريد سوى (أسدهم) قرروا أن يحرقوا البلد، وفي مشروعهم “نحرق البلد” حرقوا قلوب مئات الآلاف من الأمهات على فلذات أكبادهن.
كان السوريون قبل خمسة أعوام فقط يقرأون قصة خنساء قريش التي بقيت أربعة عشر قرناً مخلدة في الأذهان على مر السنين، بتقديمها أربعة من أبنائها شهداء أيام الفتوحات الإسلامية الأولى. أما بعد “حرق البلد” باتت قصة الخنساء قصةً عابرةً أمام آلاف القصص التي لا يمكن لعقلٍ تصورها.
إحدى هذه القصص حدثت قبل أيام فقط في إحدى قرى ريف إدلب الجنوبي، حيث باتت امرأة نازحة إليها من طيبة الإمام في ريف حماة حديث جميع السكان، فقد وصلها للتو خبر استشهاد ابنها الرابع خلال قتاله على جبهات حماة، وكل من سمع بالخبر ظنّ أن يرى أماً مكلومة منهارة من الحزن على مصابها.
وعلى العكس تماماً، فعلى الرغم من مرور ساعات فقط على دفن فلذة كبدها “فضل” وجدنا الخالة “أم محمد” تعطي دروساً بالرجولة والصبر لمن حولها، لا يحمل صوتها سوى روح التحدي والإصرار على متابعة المسير في طريق اختارته لها ولأولادها، وقررت مسبقاً المضي في مهما كانت الخسائر.
هي أم لتسعة شبان وابنتين، ولكنها ليست كباقي الأمهات، معظم أبنائها متعلمين، ويحملون الشهادات الجامعيّة، أطلقوا عليها “خنساء طيبة الامام” ولكنّها ليست كباقي الخنساوات، “سعاد الدوجان” أرملةٌ من طيبة الامام في ريف حماة وابنة الخامسة والخمسين، في كل مرة يأتيها خبر استشهاد أحد أبنائها تزداد عزيمتها وإيمانها.
“حسبي الله ونعم الوكيل، لله ما أعطى ولله ما أخذ” هذه العبارة رددتها أربع مرات وتفتخر أن بقية أبنائها ما زالوا على جبهات القتال، متفائلةً أنهم سينتقمون لأشقائهم ولأبناء سوريا من قتلتهم المجرمين، وتقول إنّ شدة إجرام النظام تدفعنا لنقدم أولادنا شهداء، كي يعيش باقي السوريين بأمان. وتقول لباقي أولادها “لن أقول لكم أقعدوا في البيوت كالنساء، ولا أمنعكم عن شيء رغبتموه، إن كنتم أردتم القتال مع الثوار فها هي الساحات”.
هي أقوى من الرجال، لابل تزيد عليهم بالصبر والجلادة، لديها فصاحة لسان وثقافة واسعة في دينها، يتلعثم أمامها الكتّاب، وتعجز عن وصفها الأقلام.
قابلتها وأنا أرتجف، وطلبت منها ان تتحدث عن الشهداء، وتحدثّت بصوت قوي رصين، فامتلكت بعض القوة.
الشيخ وائل شهيدها الأول
الشهيد وائل قسوم
وائل القسوم الشهيد الأول والأب لأربعة أطفال، والابن المدلل عند الخنساء، خريج كلية الشريعة في دمشق والابن الثاني لديها، عمل منذ بداية الثورة كناشط في المظاهرات السلمية، وكان له علاقات واسعة مع أغلب الناشطين في المنطقة.
سقط شهيدا عندما داهمت قوات النظام وشبيحته مدينة اللطامنة المجاورة لمدينته طيبة الإمام، ضمن المجزرة الشهيرة التي ارتكبتها قوات النظام في السابع من نيسان/أبريل عام 2012، وراح ضحيتها حينها أكثر سبعين شهيداً معظمهم أطفال ونساء.
ثم المهندس عبد الحكيم
عبدالحكيم قسوم (2)
أربعة أشهر فقط مضت على فقدها للشهيد وائل، ولا زال طيفه في ذاكرة الأم سعاد، حتى أتاها نبأ استشهاد عبد الحكيم الابن الثاني لها، عبد الحكيم الشهيد الثاني والأب لولد واحد، خريج هندسة الميكانيك، كان من أعلام الثورة في منطقته، وكان يقاتل مع الثوار، وترأس مجموعة في كتيبة النور، كان يتقدّم صفوف الثوار، عرف عنه الإقدام والشّجاعة.
سقط شهيداً في كمين لقوات النظام، على مدخل مدينته طيبة الإمام في ريف حماة الشمالي، عندما ذاهبا في مهمة استطلاع عسكرية، وتحدّثت الأم عنه بمرارة كونها لم تر جثّته، حيث احتجزتها قوات النظام، ونشرت قنوات النظام الرسمية خبر مقتله مع ثلاثة من رفاقه بعد يوم من وقوعهم في الكمين.
القائد أحمد ثالثهم
أحمد أبو مسلم
مضى أكثر من عام على استشهاد وائل وعبد الحكيم، واليوم يأتي خبر استشهاد أحمد (أبو مسلم)، ربما تعوّد قلب الأم على سماع خبر سقوط أبنائها شهداء، فهم لايزالون مع الثوار ويتقدمون الصفوف، فهي تتوقّع ذلك في كل لحظة، أحمد الذي يحمل إجازة في التاريخ، كان القائد العسكري في لواء فرسان الإسلام، وعرف عنه الذّكاء والحنكة، وكان دائما في مجموعات الاقتحام، كان من المخططين لعملية اقتحام حاجز المداجن شمال طيبة الامام وانفجر عليه لغم أرضي قبل ساتر الحاجز بأمتار تسبب بمقتله هو وثلاثة من مجموعته، في الخامس من تشرين الأول عام 2013.
واليوم الشاب فضل
فضل أبو اليمان
فضل أبو اليمان الابن المدلل للخنساء، كان يضع صورته على صفحة الفيس بوك بجانب صور إخوته ويرنوا إليهم بحسرة ويقول: (ليتني معكم، فأفوز فوزا عظيم ) وآخر الشهداء، والطالب في السنة الثالثة من كلية الآداب، قسم اللغة التركية، والمهذّب من بين رفاقه، والذي كان يقول لأمه دائما “لا تحزني أمّاه إنّ الله معنا” والمشغول دائما في الجبهات، يسقط شهيدا في قرية لحايا في الثالث والعشرين من شهر تشرين الأول أكتوبر، سقط شهيدا على حدود مدينته طيبة الامام، كان يعد والدته بالعودة إليها قريبا، لأن المعارك اقتربت منها، وبشائر التّحرير لاحت في الأفق.
ربما وجد الإخوة الذين يتابعون ما بدأه إخوتهم في القتال مع الثوار حرجاً في إبلاغ الوالدة، فيختاروا ابن عمهم الشيخ قصي والمقرّب من العائلة، والذي نقل خبر استشهاد أحمد الابن الثالث للخنساء.
ذرفت عيونها دمعتان خفيفتان ونظرت إلى إخوة أبو الفضل، وقالت لهم: اصبروا فقد اختاره الله، وقضاء الله لا مرد فيه، إنّا لله وإنا إليه راجعون، والحمد لله رب العالمين.
عبد الرزاق الصبيح: كلنا شركاء