من الأخطاء القاتلة التي واجهت المعارضة أنها لم تتحرك بسرعة أكبر وتزيح أو تقلص الحجم المبالغ فيه من أحزاب جماعة الإخوان المسلمين وشركائها.
بدخوله العام السادس، يسدل في سوريا الستار على أكثر الأعوام زخما وتحولات في النزاع منذ اندلاع الثورة السورية في 15 مارس 2011، دون أن تكون هناك مؤشرات على اقتراب حل يرضي كل السوريين رغم الضغط الدولي لتبني الهدنة وانطلاق المفاوضات لحل الأزمة.
لندن – تدخل الثورة السورية عامها السادس وهي تشهد معضلة دموية أنهكت الشعب ودمرت البلاد، منذ أن خرج في 15 مارس 2011، عدد كبير من الشعب السوري في مظاهرات مطالبة بحقوقهم وكرامتهم، حيث كانت المطالب في حدها الأدنى كالحقوق التي تنعم بها أغلب شعوب العالم الثالث.
اندلعت الثورة في بلد يتخبّط تحت منظومة حكم أغلب قياداتها تحولوا إلى تجار، في ظل ما سمي “الانفتاح الاقتصادي” الذي تديره ماكينة الفساد، حيث تمددت إيران داخل سوريا سياسيا وأصبحت تنخر كل مؤسسات الدولة وتلعب على “التشييع السياسي” من جهة، ومن جهة ثانية دخل المنتج التركي منهيا ما تبقى من الصناعة السورية تحت عباءة الصداقة بين بشار الأسد ورجب طيب أردوغان.
تفاقمت البطالة وارتفعت الأسعار وظهرت فئة اجتماعية جديدة نتيجة التزاوج بين النفوذ الأمني العسكري وتجار الفساد، هذه الطبقة من حديثي الثروة كانت السلطة الحقيقية في البلاد، بينما كان بشار الأسد مسرورا بـ”إعجاب السوريين” ببنطال “الجينز” الذي يرتديه والدراجة الهوائية التي يلتقط صورة بجانبها وظهوره في بعض المطاعم الفاخرة بين أثرياء السوريين وتقديمه لنفسه على أنه من خريجي بريطانيا، كما كان الأسد يجلس مع أطفاله ليلعب الألعاب الإلكترونية (بلاي ستايش)، يقصف بدبابته الإلكترونية أعداءه الافتراضيين، ويبتسم لأنه دمر كل أعدائه وأصاب كل الأهداف طبعا في تلك الفترة “على شاشة اللعب”.
نرجسية الأسد
أراد الأسد أن يقول للشعب السوري إن الرئيس إنسان مثلكم، يلبس نفس ملابسكم، ويلعب مع أولاده ويأكل معهم، منفتح ويريد حياة عصرية.
نرجسية الأسد والصورة التي قّدم بها نفسه خدعتا السوريين بنسبة ما في بداية أيام حكمه، فكانوا يعتقدون أن هذا الرجل “المنفتح يحمل عقلية غربية” سيتقبل أن يتظاهر الناس ليعبروا عن استيائهم، طبعا لم تكن التظاهرات في البداية ضده.
ربما ليس فقط المواطن السوري من خدع بصورة الأسد بل حتى الأسد نفسه خدع من الوهم الذي كان يعيش به. أراد أن يكون رئيسا محبوبا ولكن دون أن يعترض أحد على أي شيء، أن يكون منفتحا وغربيا في لباسه ولكنه منغلق في تفكيره الذي يرفض حق الشارع في التعبير عن الرأي أو المطالبة بأي حق مشروع مهما كان بسيطا.
عندما خرج عدد كبير من السوريين بمطالبهم ورد عليهم نظام الأسد كما ترد “قوات الاحتلال”، انتهى الوهم عند السوريين، أدركوا أن صورة الأسد لا تطابق الحقيقة، رفعوا صوتهم، فزاد إطلاق النار عليهم، فزادهم قوة وإصرارا.
تحولت خطابات الأسد كمن يسكب “الزيت على النار”، خرج المزيد من السوريين بسلمية مطلقة، زاد إجرام النظام، فزادت الشعارات حدة حتى وصلت إلى شعار التغيير “الشعب يريد إسقاط النظام”، عندها أمر الأسد بدخول الدبابات للقضاء على الثورة مسترشدا بالمقربين من أبيه وتجاربه في سحق مدينة حماة عام 1982.
تلك الدبابات التي أجاد استخدامها في الألعاب الإلكترونية وحقق أهدافه في تدمير كل شيء يقف أمامه، تحولت إلى دبابات حقيقية عندما أعطى الأسد الأوامر لما يسمى “الجيش العربي السوري” ليقصف أي هدف يرفع شعار “الشعب يريد إسقاط النظام”.
ضربت درعا بالدبابات، فهبت المدن السورية واحدة تلو أخرى لتنجدها بالتظاهرات والاحتجاجات، أصبح الأسد محركا للانتفاضة ضد حكم العائلة والعشيرة والطائفة والقيادات الأمنية والتي تتمثل جميعا في شخص بشار الأسد والتأكيد على رحيله.
لم يكن الشعب السوري وحده مندهشا من تصرفات الأسد بل حتى الدول العربية، وحسب مصدر دبلوماسي عربي وجار لسوريا، فإن زعيم تلك الدولة أرسل موفدا ينصح الأسد بأن يذهب مباشرة إلى درعا ويعزل ابن خالته عاطف نجيب، الذي كان رئيس الأمن السياسي في مدينة درعا، ويطلق سراح الأطفال الذين سجنهم عاطف ويحل مشاكل ومطالب المتظاهرين، ولكن بشار الأسد رفض ذلك وذهب للتصعيد ضد المتظاهرين.
انشقاقات الجيش
سوء فهم الأمور عند الأسد أدى إلى قرارات متأخرة جدا وبعيدة عن الواقع، فالمراسيم الرئاسية التي كانت تصدر في الأسبوع الثامن بالكاد كانت تتناسب مع مطالب المتظاهرين في الأسبوع الأول، والمراسيم التي صدرت في الأسبوع العشرين كانت بالكاد تلبي مطالب الأسبوع الثاني من المظاهرات. حركة الأسد وقراراته كانتا نابعتين من عدم فهمه لما يحدث، فهو لا يزال يعيش في نرجسية حب الشعب له وأن من يعترض عليه هم جزء من مؤامرة.
القضية تجاوزت المظاهرات ووصلت حد انشقاقات في الجيش والقيادات السياسية والحكومية، ولكن للمصداقية كل المنشقين لم يكونوا من صانعي القرار أي لم يكونوا من الحلقة الضيقة، فظلت نواة النظام متماسكة، والسبب في عدم انشقاق نواة النظام أنه مبني على مزيج ما بين المصالح والفساد المشترك والطائفة والعائلة التي تقود الجهات الأمنية والعسكرية والسياسية التي جعلتهم يدا واحدة وكقوة تواجه حرب شعبية ضدهم.

أدرك الأسد أن “خير وسيلة” هي التواصل مع إسرائيل واللوبي الإسرائيلي في الدول الغربية ليقول لهم أنا من يحمي إسرائيل وإن أي بديل عني هو تيارات إسلامية متشددة، فصرح رامي مخلوف، ابن خال الأسد لـ”نيويورك تايمز” قائلا “لا استقرار في إسرائيل دون استقرار سوريا”، وتلى هذا التصريح إطلاق سراح المئات من الإسلاميين المعروفين بارتباطهم بالقاعدة، بينما استمر النظام باعتقال الآلاف من الناشطين المدنيين الذين لعبوا دورا أساسيا في إدارة التظاهرات الشعبية السلمية.
ظهرت فصائل من العسكر منشقة عن جيش النظام وأعلنت تشكيل “الجيش الحر”، بينما انقسم الجيش السوري إلى قسمين الجيش الحر أو جيش الثورة وجيش النظام أو جيش الأسد الذي ردد شعارات “الأسد أو نحرق البلد”، أما السجناء الذين أطلقهم من إسلاميين متشددين فعملوا على تشكيل فصائل إسلامية كالنصرة وداعش وأخواتهما.
النظام والمعارضة السورية أخطآ، النظام أجرم بحق الشعب السوري والمعارضة لم تكن بحجم المسؤولية، إلا أنه من الإجحاف أن نساوي بين الطرفين، فالأول ارتكب جرائم ممنهجة والثاني وقع في الخطأ الأكبر وهو العيش في وهم أن المجتمع الدولي سيسقط النظام عاجلا أم آجلا، لذلك ظهرت تيارات متعددة للمعارضة بدأت تتنافس فيما بينها على السلطة قبل الوصول إليها، كمن يعيش في أوهام أنه يستطيع “بيع جلد الدب قبل صيده”.
من الأخطاء القاتلة التي واجهت المعارضة أنها لم تتحرك بسرعة أكبر وتزيح أو تقلص الحجم المبالغ فيه من أحزاب جماعة الإخوان المسلمين وشركائها. فاقتحم الإخوان المشهد في أولى المحاولات الجادة للعمل السياسي البديل عن النظام، وهيمنوا على “المجلس الوطني السوري” وكانوا يتوهمون أن المجتمع الدولي سيعتمده كمجلس حكم انتقالي بشكل مشابه لما حدث في ليبيا وأدى إلى سقوط حكم القذافي.
وبعد تعنت الإخوان وشركائهم ورفضهم إعادة هيكلة المجلس الوطني بشكل يعطي كل التيارات والمكونات السورية نسبا متوازنة، اندفعت تيارات متعددة من المعارضة لإزاحة الهيمنة الإخوانية من خلال تشكيل الائتلاف الوطني السوري الذي قلص النفوذ الإخواني سياسيا لدرجة كبيرة.
ولكن هذا التغيير كان متأخرا، فالإخوان وشركاؤهم من الجماعات المتشددة كجبهة النصرة بدأوا بالتغول في الجسد السوري عسكريا بالتزامن مع تغول المتشددين من جماعة النظام من أمثال حزب الله ولواء أبوالفضل العباس، فبدأ المشهد المتشدّد يتجاوز النظام والمعارضة معا، فظهر تنظيم داعش من أحضان النصرة والإخوان وحركات الإسلام السياسي المتشددة، بالإضافة إلى غض النظام نظره عنها لتشجيعها على أمل أن تتكاثر في مناطق المعارضة التي حررتها من قوات النظام.
وفعلا هذا ما حدث، فإذا بالنظام لم يقدم على قصف داعش بشكل جدي أبدا وداعش لم يهاجم النظام بشكل جدي كما لم يهاجم المناطق الاستراتيجية للنظام، بل اكتفى بالتقدم والهجوم على المعارضة المسلحة من الخلف بينما كانت المعارضة تتقدم على النظام. فجأة تضخم تنظيم داعش وأصبح كالورم السرطاني في الجسد السوري، عندها انتعش النظام وقال “ها قد جاء الفرج”. خرج النظام ليتحدث للإعلام الغربي أن البديل عن الأسد هو الإرهاب، هو داعش.
يتحمل الإخوان مسؤولية كبرى عن الأزمة السورية بدءا من الهيمنة السياسية المبالغ في حجمها وصولا إلى ضرب أي محاولات لمأسسة الجيش الحر والفصائل المعتدلة، فعمل الإخوان على تحويل كل الدعم إلى الفصائل الإسلامية وتوسيعها على حساب دعم الجيش الحر ومنعهم من التحول إلى جيش وطني بديل عن جيش النظام.
وركزت جماعة الإخوان المسلمين على منافسة التيارات المعارضة الجديدة وعملت على وضع العصي في العجلات لمنع ظهور معارضة معتدلة تدير المشهد السياسي المقبل. فكان الإخوان أكبر عبء على المعارضة، كما كان النظام أكبر عبء على الشعب السوري.
تحالف الإخوان مع التيارات السلفية وحركات الإسلام السياسي المتشددة سياسيا وعسكريا على أمل الاستعداد للانقضاض على السلطة بمجرد أن يسقط النظام. فكان الإخوان وشركاؤهم أحد الأسباب التي منعت المجتمع الدولي من اسقاط النظام كي لا تستلم هذه الجماعة التي تعيش في العصور الوسطى الحكم في سوريا.
كان الإخوان أحد أسباب تأخر انتصار الثورة السورية من منطلق تبنته الجماعة بشكل غير معلن “لا يهم متى يسقط النظام المهم متى نصل نحن إلى السلطة”، وعليه بدأت جماعة الإخوان المسلمين محاولة إنعاش نفوذها السياسي والعسكري والاجتماعي.
لكن وعي المعارضة والشعب السوري بأن جماعة الإخوان ومثيلاتها هي إحدى أكبر الكوارث التي واجهت الثورة السورية، دفع المعارضة للتحرك داخليا وإقليميا ودوليا لتعرية الدور السلبي الذي تتبناه هذه الجماعة، بالتوازي مع عملهم ضد الأسد، وتحديدا محاربة الأسد أولا والإخوان والتشدد ثانيا.
تغير في الموقف الدولي
ظهور التطرف دفع المجتمع الدولي إلى التخفيف من الضغط على النظام، وبالعكس زاد الضغط على المعارضة حتى من أصدقائها ومنع عنها السلاح، وخصوصا السلاح النوعي الذي يمكن أن يقلب الموازين عسكريا، وفي نفس الوقت تم غض النظر عن كل جرائم النظام ليس محبة فيه، بل لسحب أخطر سلاح كان بيده وهو السلاح الكيميائي، فتمت الصفقة الأميركية برعاية روسيا مقابل تغيير أولويات الجانب الأميركي من إسقاط النظام إلى مقايضة النظام بما يملك من مخزون كيميائي مقابل إطالة عمر النظام على أمل إيجاد صيغة للانتقال السياسي السلس للسلطة بالتعاون مع حلفاء النظام وتحديدا الروس.
بعد أن أوفت روسيا بالتعهد للأميركان بتسليم أخطر أنواع السلاح الكيميائي، وتلا ذلك الاتفاق النووي مع إيران، أصبحت سوريا ورقة لا تحظى بأهمية للجانب الأميركي، وتم تسليم زمام الأمور إلى روسيا لتكون مسؤولة ووصية على التغيير الشامل في سوريا، فدخلت روسيا بقوتها العسكرية تضرب المعارضة لا لتهزمها ولا لتنصر النظام بل لتمنع سقوطه القريب.
وكما لم يكن الحدث متفقا عليه بين الروس والأميركان، بدأت التصريحات المنتقدة لهجمات الروس على المعارضة ولكن هذه التصريحات كانت عبارة عن تصريحات خجولة جعلت الكثير من المراقبين يشعرون أن التدخل الروسي لم يأت عبثا ومن قرار أحادي من الكرملين بل بتنسيق خفي مع الجانب الأميركي. وفعلا لم يطل التدخل العسكري حتى فرض الروس والأميركيون هدنة على المعارضة والنظام لوقف إطلاق النار.
وتم الدفع بتفعيل الحل السياسي التفاوضي الذي يمهد لمرحلة انتقالية تتشارك فيها المعارضة المعتدلة وبعض قيادات النظام المقبولة للانتقال إلى حكم جديد يتجاوز النظام القديم والمعارضة الطارئة، ويولد منظومة حكم تقوم على دستور جديد وبرلمان جديد وحكومة جديدة ورئيس جديد لشعب يستحق أن يرى زوال النظام المجرم والمعارضة الواهمة.
إعلامي سوري
غسان إبراهيم – العرب