تنفس سكان حلب المحاصرون الصعداء واستعادوا الأمل بانتهاء محنتهم، عندما خرج سفراء الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا من قاعة مجلس الأمن غاضبين من استدعاء سفير دمشق للتحدث في جلسة مخصصة للبحث في مأساتهم. الآن فقط تأكدوا أن الدول الغربية لم تتخل عنهم، وصار بإمكانهم أن يموتوا مطمئنين. لم يعد مهماً سقوط آلاف القنابل الفراغية والارتجاجية والعنقودية والبراميل المحشوة بالفوسفور الحارق، لأن القوى الغربية الكبرى، وفق ما تبيّن، لا تزال تساندهم بقوة وتشعر بالغضب لمرأى سفير النظام المسؤول عن تكديس جثثهم وجثث أبنائهم في الشوارع والمشارح.
لم يعد مبرراً بكاء الأطفال ونحيب الأمهات وجزع الآباء. بات بإمكان سكان حلب تلقي الموت بفرح وصمت، فالضجيج الذي يحدثونه قد يعكر مهابة القرار بمغادرة القاعة الفخمة، وينغص على السفراء الثلاثة متعة الانتصار المكرس أمام العدسات والأضواء. وصار لزاماً على المصورين ووسائل الإعلام أن يمحوا اللونين الأحمر والأسود لدماء الحلبيين وحروقهم من الصور التي ينشرونها لقتلاهم وجرحاهم، لأنها قد تعطي انطباعاً خاطئاً بأنهم تُركوا لمصيرهم في وجه آلة بطش جبارة يحركها القاتلان في قصري الكرملين والمهاجرين، وقد توحي عن غير حق بأنهم ليسوا سوى تفاصيل هامشية في المفاوضات على خرائط النفوذ وحدوده بين شرق وغرب.
ولا بد أيضاً من إعادة النظر في ما تروجه المنظمات الإنسانية عن جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية ترتكب في حلب وسائر سورية، لأنها قد تؤثر على الصداقة والزمالة القائمة بين كيري ولافروف، وقد تدفع أحدهما إلى الامتناع عن رفع كأسه تحية للآخر، أو معانقته بحرارة، كلما التقيا للنظر في أمر السوريين.
وبات لزاماً أن يتوقف المعارضون السوريون ومؤيدوهم عن توجيه تهم العجز والتخاذل واللامبالاة والتواطؤ إلى الأميركيين والأوروبيين، بعد تلك التعبئة الديبلوماسية الفذة التي أوصلت إلى القرار البطولي بالانسحاب من الجلسة وانعكاساته الكبيرة على موازين القوى على الأرض، والضغط الهائل الذي يمثله على روسيا ونظام الأسد لإشعارهما بالندم والخجل من النظر إلى صور السفراء الثلاثة وهم يخطون إلى الخارج والتأثر بادٍ على وجوههم.
لا بد من أن سكان حلب وسائر المقصوفين أيقنوا بأنه لم يكن أمراً سهلاً على الإطلاق أن تصل المندوبة الأميركية في الجلسة ذاتها إلى حد وصف الغارات الروسية على المدينة بالبربرية، وتفهموا تماماً الجهد المهول الذي بذلته في تخطي أعراف العلاقات بين الدول، حتى كادت تحوّل موقفها النظري المجرد إلى مشكلة شخصية مع زميلها الروسي، ما تستحق عليه الإطناب والتهنئة وراحة البال.
وعرف هؤلاء بالتأكيد أن السفيرة مضطرة إلى التزام الخلاصة العبقرية التي توصل إليها رئيسها أوباما قبل الجلسة بأيام، عندما أكد أنه لا يمكن تحقيق انتصار عسكري في سورية، وأن حكومته ستواصل، بغض النظر عن إمعان الطرف الآخر في القتل والتدمير، مسعاها الديبلوماسي لوقف الحرب، وأن من نوى أمراً كأنه أقدم عليه.
وحتماً، فإن ملايين السوريين من محاصرين وجرحى ومشردين، وأولئك المرشحين يومياً للانضمام إليهم، يتفهمون بلا أي لوم أو ضغينة، انشغال الأميركيين بالانتخابات الرئاسية وضيق الوقت الذي يمكن أن يخصصوه لبلاد بعيدة تدمر على رؤوس مدنييها. وقد سبق لهم أن خبروا كيف وجد سيد البيت الأبيض حلاً سحرياً للقصف الكيماوي على أشقاء لهم، بتحويل القاتل بين ليلة وضحاها إلى متعاون مع المجتمع الدولي.
كان الخروج الغاضب للسفراء أقصى ما تفتق عنه ذهن حماة العالم الحر المنهمكين بنشر الديموقراطية في غير الشرق الأوسط، لإراحة ضميرهم المثقل، فيما تكفي خمسة صواريخ مضادة للطائرات لتجنيب حلب وسكانها كل هذا القتل والدمار.
الحياة – حسان حيدر