في ذلك اليوم الذي امتزجت فيه الطقوس الروتينية بإعلان حدث له دلالات تاريخية لا يمكن إنكارها، بدأت بريطانيا رسمياً خروجها من الاتحاد الأوروبي، بتسليمها رسالة إلى بروكسل، تلتها كلمة رنانة لرئيسة الوزراء البريطانية، تيريزا ماي، في البرلمان.
فمن اليوم، ستبدأ مفاوضات إجراءات الطلاق التي ستستمر طوال عامين للخروج من الاتحاد، بنتائج يصعب التكهن بها ما عدا أنها ستكون محادثات لاذعة ومثيرة للجدل، والفائز الوحيد في هذه المعركة، هم من دون شك، المحامون والمفاوضون التجاريون.
للمرة الأولى في تاريخها، تفقد الكتلة الأوروبية عضواً بارزاً، فضلاً عن أنه ثاني أكبر اقتصاد لها. فالعالم الغربي الذي امتاز، منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، ببنيته الهندسية المتينة المتعددة الجوانب، تعرّض لضربة قاسية، فيما تُطرح تساؤلات حول ما إذا كانت هذه الخطوة، التي اتخذتها بريطانيا نحو القومية والمصلحة الذاتية، ستكون بداية حقبة عالمية أكثر تقلباً.
عندما صوت البريطانيون في يونيو/حزيران الماضي لصالح مغادرة الاتحاد الأوروبي، قال مؤيدو الـ”بريكست”، إن البلاد ستكون على موعد مع موجة كبيرة من التيارات الشعبوية. وبعد أشهر، ساهم انتخاب دونالد ترامب رئيساً للولايات المتحدة، في تأكيد الشعور بأن عدوى مناهضة السياسات القائمة تجتاح الدول الديمقراطية الغربية، وستنقلب على أنظمتها الحالية. ومن ثم، فإن بريطانيا، ستكون الفائزة في الحقبة الجديدة.
عدد قليل من الناس توقع خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، فيما توقع عدد أقل انتصار ترامب في الانتخابات الرئاسية. إلا أن قلة أخرى من الناس تنبأوا بما يحصل الآن: ساعة الاتحاد الأوروبي لم تحن بعد رغم المرض والخلل الوظيفي الذي يضرب أوصاله.
فالأحزاب الشعبوية في ألمانيا تتراجع في استبيانات، وفشلت في تحقيق النتائج المرجوة بهولندا. وتظهر استطلاعات الرأي خيبة أمل الأوروبيين بالتيار الشعبوي رغم أنهم لا يرغبون في أن يشاهدوا انهياره تماماً.
وكان بييرباولو باربيري قد كتب مؤخراً لمجلة “فورين أفيرز” الأميركية، التي تصدر عن مجلس العلاقات الخارجية: “لا أحد سيحذو حذو بريطانيا”.
لكن السؤال الذي يطرح نفسه الآن، هو ما إذا كان بعض الأوروبيين الذين لمسوا أولى نتائج التصويت على الانسحاب من الاتحاد، وكذلك نتائج التصويت للانتخابات الرئاسية الأميركية -الانقسام السياسي في بريطانيا وهبوط قيمة الباوند، والأخطاء السياسية التي ارتكبتها إدارة ترامب- يشعرون بالقلق من الفوضى التي خلقها اليمين؟
الفرضية التي يقوم عليها هذا التساؤل تحمل الكثير من التكهنات، وسيتم اختبارها الشهر المقبل في فرنسا مع بدء الانتخابات الرئاسية، حيث انهارت الأحزاب التقليدية. واليمينية المتطرفة ماري لوبان وعدت، حال فوزها، بانسحاب فرنسا من الاتحاد الأوروبي. إلا أن إمانويل ماكرون المؤيد للبقاء داخل الاتحاد، يتقدّم استطلاعات الرأي حالياً.
تحديد الفائزين في هذه المرحلة، قد يكون أمراً خطراً، إلا أن العديد من المحللين يتفقون على أن الانسحاب البريطاني، وحالة عدم اليقين الناتجة عنه، هو نبأ سارٌّ لروسيا والصين؛ إذ ستسعى الدولتان القويتان إلى ممارسة نفوذهما بشكل أكبر، من خلال مفاوضات أحادية مع عواصم أوروبية، بدلاً من التفاوض مع اتحاد أوروبي موحد ومتين والذي يعتبر مجتمعاً، بكل أعضائه، قوة جيوسياسية.
“إن خروج بريطانيا سيعزز بدوره عمليات التفكك التي تجري حالياً في الاتحاد الأوروبي، ومن ثم فهو نعمة لروسيا”، هكذا وصف جيمس نيكسي، رئيس برنامج روسيا وأوراسيا في مركز الأبحاث تشاتام هاوس بلندن، عملية الانسحاب، لصحيفة نيويورك تايمز الأمريكية، مضيفاً: “الاتحاد الأوروبي أقوى من أي عنصر واحد، حتى ألمانيا، لذلك فإن أي شيء يقلل المنافسة في المعادلة الصفرية التي تراها موسكو، سيقوي الصوت الروسي في أوروبا”.
غياب بريطانيا عن طاولة الاتحاد الأوروبي، سيكون أيضاً في صالح الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، حيث عملت بريطانيا بشكل جزئي، وهي الحليف الرئيسي للولايات المتحدة، على حث الاتحاد الأوروبي على الضغط على روسيا بعد ضمّها شبه جزيرة القرم في أوكرانيا. وبعدها، أوقفت أوروبا اعتمادها على الغاز الطبيعي الروسي. لذا فإن أي شيء يحوّل السلطة في بروكسل بعيداً عن وجهة النظر الأنجلوسكسونية، يعتبر مكسباً لموسكو.
الخروج المرتقب من الاتحاد الأوروبي، حوّل أنظار بريطانيا إلى الداخل، حيث تركّز الحكومة ووسائل الإعلام القوية في البلاد، على تفاصيل عملية الانسحاب بشكل كامل، بدءاً من حالة عدم اليقين فيما إذا كانت بريطانيا ستتمكن من الاحتفاظ بأكبر منفذ ممكن إلى السوق الموحدة للاتحاد، مروراً بالدعوات التي تطالب السلطات بضبط الحدود واستعادة السيطرة على عمليات الهجرة، ووصولاً إلى الإصرار على “استعادة السيادة” من خلال إعادة السلطات التشريعية إلى لندن.
هذا الاهتمام بالسيادة الوطنية والحد من الهجرة يتردد صداه في القارة الأوروبية كلها، لذلك ينظر البعض إلى خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي كخطوة أولى ستليها خطوات أخرى كفيلة بتفكيك الوحدة الأوروبية.
في ديسمبر/كانون الأول الماضي، انتخب النمساويون رئيس الاتحاد الأوروبي ألكسندر فان دير بيلين، المؤيد لأوروبا، بفارق ضئيل عن منافسه نوربرت هوفر من حزب الحرية المتطرف. وفي إسبانيا، فشل حزب بوديموس الشعبي، العام الماضي 2016، في تحقيق توقعات استطلاعات الرأي، حيث ظلّ رئيس الوزراء المحافظ، ماريانو راجوى، في منصبه.
وخلال هذا الشهر، حظي الهولندي اليميني المتطرف المناهض لأوروبا غيرت فيلدرز، على أصوات أقل مما كان متوقعاً، في أحد بلاد أوروبا الشمالية، التي تشبه تطلعاتها السياسية بريطانيا.
وفي ألمانيا، ما زالت المستشارة أنجيلا ميركل تتقدم استطلاعات الرأي، رغم النقد الشديد لتبنّيها سياسة هجرة “الباب المفتوح” عام 2015. وإضافة إلى ذلك، فإن المنافس الرئيسي لميركل هو الموالي لأوروبا، الرئيس السابق للبرلمان الأوروبي، مارتن شولز، وهو أحد الديمقراطيين الاشتراكيين.
وحتى في بلغاريا، التي تعتبر أكثر الدول تأثراً بروسيا، فقد رأت خلال الانتخابات التي جرت نهاية الأسبوع الماضي، أن مواطنيها يؤيدون الحزب اليميني الموالي لأوروبا.
وفي الوقت الذي يؤيد فيه الناخبون الأوروبيون مبدأ الوحدة، تواجه بريطانيا انقسامات مقبلة. فقبل 24 ساعة من تسليم بريطانيا رسالة الانسحاب إلى بروكسل، صوّت البرلمان الاسكتلندي، الثلاثاء 28 مارس، على إجراء استفتاء جديد للاستقلال عن المملكة المتحدة. ومن غير المرجح أن يحدث هذا الاستفتاء الذي يتطلب موافقة الحكومة البريطانية في وقت قريب، ولكن هذه القومية المتصاعدة في اسكتلندا، كانت أشبه بمنبّه للندن، بأنها ستذوق الدواء الذي وصفته لنفسها.
ومع محاولات حكومتها اليائسة للحفاظ على مكانة بريطانيا في العالم، حوّلت تيريزا ماي وجهتها إلى الرئيس ترامب. ويشكك الأخير ومستشاره السياسي ستيفن بانون في مبدأ التعددية التي تمثلها منظمة التجارة العالمية، والتجارة الحرة والتحالفات المتشابكة. وفي حين أن حلف شمال الأطلسي الناتو قد يكتفي بالتزام الدول الأعضاء كافة بواجباتها المالية دون أن يبدي أي اعتراض، يرى كل من الاتحاد الأوروبي والأمم المتحدة أن سياسات ترامب ومستشاره بانون ستضعف العالم إن لم تفككه.
ومع ذلك، حاولت تيريزا ماي، أن تُظهر مدى التزام بريطانيا بالعولمة والتجارة العالمية. لكنها دائرة صعبة للغاية، تعكس مدى صعوبة التنبؤ بمستقبل بريطانيا. ويتصور البعض أن مصير البلاد سيكون كحال سنغافورة، تلك الدولة ذات السيادة والاحترام، والتي تسعى بشغف الكثير من الدول للوصول إليها. فيما يحذّر آخرون من عزلة أكبر قد تواجهها بريطانيا، خاصة أن القادة الأوروبيين يشعرون بأن عليهم توجيه صفقة صعبة لها.
ويقول مارك ليونارد، مدير المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية: “هناك ضرورة سياسية بألا يُنظر لخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي على أنه نجاح؛ لأن كل حكومة في أوروبا تواجه تحدياً إلى حد ما من قِبل القوميين المتجددين، والذين سيتم تشجيعهم في حال نجاح بريكست”.
أما النواب البريطانيون الذين يؤيدون الانسحاب، أمثال جاكوب ريس-موج، وهو مشرّع محافظ، فيقول: “إن الخروج هو تحرر رائع لبلدي”.
وأضاف في مقابلة مع مجلة بروسبيكت أن “السوق هي وسيلة بيروقراطية عالية التنظيم تجعل التجارة البريطانية أكثر كفاءة؛ بل تتعلق باتباع نهج مقرب من الداخل في أوروبا بدلاً من الانخراط مع العالم”.
وفيما يتابع قائلاً إنه “لا يوجد حدث سياسي في حياتي أفضل للبريطانيين أو أكثر إثارة لهم من هذا”، يتحدث عن شكوكه في أن “بريطانيا قد تبحر، لكن الأيادي المُرحّبة لن تكون كثيرة”.
المصدر:هافينغتون بوست عربي