في صيف 2005 أشارت تقارير صحافية، غير رسمية بالطبع، إلى أنّ عبد الحليم خدام (1932 2020) نائب رئيس النظام السوري يومذاك، اعتزم التنحّي عن جميع مسؤولياته السياسية والحزبية. ولقد أشاع بعض المقرّبين منه أنه «حرد» من العمل بعد نقاش حادّ مع فاروق الشرع، وزير الخارجية، حول سياسة النظام الخارجية إجمالاً، والتطوّرات في لبنان بعد اغتيال رفيق الحريري خصوصاً. وتلك الرواية لم تكن مضحكة وسخيفة ورديئة التأليف، فحسب؛ بل كانت تُنذر، وهو بُعدها الأهمّ، بأبرز المخارج التجميلية التي سوف يعتمدها خدام ساعة فراره من مركب يوشك على الغرق: استباق العاصفة ونفض اليد من مسؤولية اغتيال الحريري، حين كانت أصابع الاتهام الدولية تُوجّه إلى نظام بشار الأسد في المقام الأوّل؛ والإيحاء، ثانياً، بأنّ رجل النظام المخضرم إنما يغادر مواقعه لأسباب «مشرّفة»، جوهرها الاعتراض على توجهات الأسد في لبنان.
ذلك لأنّ خيارات الأسد الابن الأخرى، الداخلية تحديداً، لم تكن البتة محلّ اعتراض خدّام، إلا بمعنى رغبته في تشديد القمع أكثر، وسحق أنساق الحراك السياسي والثقافي الذي اقترن مع نشوء المنتديات في أعقاب وفاة الأسد الأب؛ وهو، في هذا الصدد، صاحب التهديد الشهير ضدّ نشطاء المجتمع المدني وقوى المعارضة، بأنّ النظام لن يسمح بتكرار «الجَزْأرة» في سوريا. وقد نُسبت إليه، في الردّ على وفود الزاحفين إلى مكتبه لمناشدته العدول عن قراره، هذه العبارة: «61 سنة في العمل العام… يكفي يا رفاق!»؛ وهي صحيحة، في جزء كبير، لجهة أنها توثّق سجلّه في خدمة حزب البعث منذ انقلاب 1963، مروراً بانقلاب 1966، وصولاً إلى انقلاب 1970 الذي قاده حافظ الأسد، وانتهاء بإشرافه شخصياُ ومن موقع «نائب الرئيس» على مراسيم ترفيع بشار الأسد من رتبة عقيد إلى فريق وقائد للجيش والقوات المسلحة، وتنصيبه وريثاً لأبيه.
وخلال 35 سنة على الأقلّ، من سنواته الـ61 التي يتفاخر بها، أي منذ 1970 وحتى 1984 في وزارة الخارجية تحديداً؛ ظلّ خدّام أوّل منفّذي السياسات الخارجية التي كان الأسد الأب يرسمها بنفسه ووحده تقريباً، بدقّة الفرجال والمسطرة، وبتفصيل شديد صارم لا يترك لأدوات التنفيذ أيّ هامش للاجتهاد، وبالتالي لارتكاب الخطأ الذي قد يسفر عن إفساد التخطيط المحكم. بذلك فإنّ خدّام لم يكن صانع سياسة خارجية بقدر ما كان منفّذاً بارعاً طيّعاً مطيعاً، وصاحب أسلوب خاصّ في التطويع وتصنيع الطاعة؛ كما في الملفّ اللبناني منذ 1975 بصفة خاصة، حين عُرف بالأشدّ غطرسة وعنفاً لفظياً وهوساً باستخدام الهراوة الغليظة. بعد 1984، حين عيّنه الأسد الأب نائباً أوّل له (إلى جانب النائب الثاني رفعت الأسد)؛ وكذلك من موقعه الحزبي، كعضو في القيادة القطرية والقيادة القومية؛ ظلّ خدّام قريباً من موقع القرار السياسي الخارجي، مُبعداً عن القرار الأمني والعسكري الداخلي، محاصِصاً في دائرة الفساد الأضيق، متعبداً للفرد الأسد، مؤمناً بسلطة سلطة الحزب الواحد، وعاشقاً للأحكام العرفية ومحاكم أمن الدولة…
بهذا المعنى فإنّ خدّام اكتسب موقعاً متميزاً لدى الأسد الأب شخصياً، وفي آلة السياسة الخارجية للنظام بصفة خاصة؛ وليس دقيقاً الافتراض بأنّ إبعاده عن الملفات العسكرية والأمنية جعل منه «تكملة عدد» في معمار النظام، إذْ أنّ صفوة محدودة، ضيّقة تماماً، من رجالات الأسد كانوا على صلة بتلك الملفات. مكانة خدّام اعتمدت، استطراداً، على الأهمية العالية التي كان الأسد يوليها للسياسة الخارجية؛ التي كانت، في كلّ حال، موضوعة مباشرة في خدمة الهدف الأكبر والأساسي، أي الحفاظ على أمن النظام واستمراره في البقاء. كذلك كانت موكلة بخلق شروط داخلية وإقليمية تُكسب النظام ما أمكن من أسباب القوّة والمنعة والقدرة على المناورة الواسعة، وتنظيم الهجوم المضادّ في الوقت المناسب؛ فضلاً عن ضمان سكوت القوى الكبرى عن سياسات الاستبداد والبطش وقهر الحرّيات التي ظلّت أجهزة النظام تمارسها ضدّ الشعب في الداخل (الأمثلة كثيرة، بينها السكوت الدولي الفاضح عن سلسلة المجازر التي ارتكبها النظام بين 1979 و1982، خصوصاً مجزرة حماة، 1982).
ظلّ خدّام قريباً من موقع القرار السياسي الخارجي، مُبعداً عن القرار الأمني والعسكري الداخلي، محاصِصاً في دائرة الفساد الأضيق، متعبداً للفرد الأسد، مؤمناً بسلطة سلطة الحزب الواحد، وعاشقاً للأحكام العرفية ومحاكم أمن الدولة…
كذلك توجّب أن تخلق السياسة الخارجية ما يشبه اقتصاداً سياسياً من طراز خاصّ قوامه الابتزاز تارة، أو التهديد تارة أخرى؛ كما في التحالف مع إيران أثناء الحرب العراقية الإيرانية، ودفع مجلس التعاون الخليجي إلى التعامل مع النظام كلاعب إقليمي لا يُستغنى عنه، وتجب رشوته بمئات الملايين من الدولارات. الوجهة الأخرى هي التلويح بإفساد هذه اللعبة أو تلك (مثل بسط السيطرة على لبنان، والتلويح بورقة «حزب الله»، واحتضان «جبهة الرفض» الفلسطينية، وتحويل القضايا الكردية إلى ورقة مقايضة وضغط على تركيا والعراق عن طريق رعاية عبد الله أوجلان و«حزب العمال الكردستاني»، أو دعم جلال الطالباني، أو تطويع بعض التنظيمات السياسية الكردية في منطقة الجزيرة على يد ضابط الاستخبارات الشهير محمد منصورة…).
في معظم هذه الملفات كان خدّام المنفّذ الأوّل، والأبرع في الواقع، بالنظر إلى ما تحلى به على الدوام من شراسة وسلاطة لسان وذرائعية هابطة وطاعة عمياء للسيّد. لكنّ سيّده لم يعتد على تنصيب رجاله، خارج الدائرة الأمنية والعسكرية والطائفية الأضيق نطاقاً، في مواقعهم طوال عقود؛ أياً كانت براعتهم في طاعته، وحُسن تنفيذهم لما يرسمه ويأمر به، فلكلّ مقام رجال ولكلّ منعطف أدوات تنفيذ! وهكذا، حين نطق الأسد الأب بـ»كلمة السحر»، على حدّ تعبير المعلّق الإسرائيلي زئيف شيف، في لقاءيْه مع الرئيس الأمريكي الأسبق بيل كلينتون (دمشق وجنيف)، وأعلن أنّ «السلام خيار سوريا الستراتيجي، ولا رجعة عنه»؛ توجّب تغيير الرجل المخضرم، وتفعيل الطاقم بالرجل الأكثر شباباً.
عند هذا التطوّر تحديداً، أي اعتزام الأسد توقيع اتفاقية سلام مع إسرائيل لتجنيب وريثه (الشابّ، غير المجرّب) سلسلة ويلات ومشكلات ومآزق جدّية قد يكون بعض ديناصورات النظام سبباً فيها؛ آن أوان ترقية فاروق الشرع إلى وزارة الخارجية، حيث تربّع خدّام طويلاً. وليس الأمر أنّ الأخير يمقت السلام مع دولة الاحتلال، أو أنه عاجز عن الخضوع لإملاءات سيّده كاملة وحرفية قبيل التوجّه للقاء كلنتون وإيهود باراك (كما فعل الشرع)؛ بل ببساطة لأنّ السياسة الخارجية للأسد الأب تبدّلت بعض أولوياتها الكبرى، وباتت خدمة الوريث الآتي هي المعركة العاجلة الأهمّ. ولم يكن غريباً أنّ بعض أتباع خدّام سارعوا، حينذاك، إلى اتهام الشرع بتخريب السياسة الخارجية السورية، والتسبّب في إصدار مجلس الأمن الدولي القرار 1559، وإجبار النظام على سحب قوّاته من لبنان…
وعلى نحو ما، واهتداء بما سيفعله الأسد الأب في لقائه مع كلنتون (جنيف، أواخر آذار/ مارس، 2000)، كان رأس النظام السوري يريد تذكير الرئيس الأمريكي ورئيس الوزراء الإسرائيلي بأنه أرسل إلى شيبردزتاون الرجل ذاته الذي، في طبعة مؤتمر مدريد 1991، واجه تلميحات رئيس الوزراء الإسرائيلي إسحق شامير إلى «الإرهاب السوري»، بإخراج الملصق الذي يحمل صورة شامير الإرهابي المطلوب من العدالة البريطانية أيّام الانتداب بتهمة اغتيال وسيط السلام السويدي الكونت برنادوت! هذا هو الرجل، قالت رسالة الأسد الأب الضمنية، الذي يمكن أن يصافح بارك؛ على طاولة التفاوض ذاتها التي رفرفت عليها أعلام سوريا ودولة الاحتلال والولايات المتحدة!
ولقد جرت مياه دامية كثيرة في أنهار سوريا، منذئذ وبعدئذ؛ لم تحمل مع ذلك سوى فوارق قليلة بين خدّام زعم معارضة النظام، وخدّام ظلّ سوط النظام ذاته في السياسة الخارجية.
نقلا عن: القدس العربي