في تفسير الجمود الأميركي في ما يخص إحدى أكبر مآسي التاريخ المعاصر، المأساة السورية، راج أخيرا في البعض من الأوساط الحديث عن أن حماس الولايات المتحدة للتدخل الخارجي لأسباب إنسانية يتبع دورة معينة يتخللها صعود الحماس وهبوطه في مراحل مختلفة مرتبطة بالرأي العام الأميركي. ولسوء الحظ، فإن المأساة السورية تحصل في ظل دورة هبوط الحماس الأميركي للتدخل الإنساني.
تبدأ تلك الدورة عادة بشعور الإدارة الأميركية بضرورة التدخل في نزاع معين لأسباب إنسانية من جهة، مثل مخاطر التطهير العرقي وانهيار الدولة، وأسباب سياسية تتعلق بالأمن القومي من جهة أخرى.
يدعم الرأي العام الأميركي ذلك التدخل في البداية، ولكن الآثار الجانبية السلبية والتي تحظى بتغطية إعلامية خاصة تؤدي إلى ظهور حالة من الرفض بين كل من السياسيين والمواطنين للتدخل الأميركي. ومع حدوث أزمة عالمية جديدة يمنع ذلك الرفض الولايات المتحدة من التدخل، ما يؤدي إلى حدوث مجازر على نطاق واسع في ظل صمت دولي هو بالأساس صمت أميركي. وبعد أن يصل الموت والقتل إلى مستويات مرعبة، يؤدي “تأنيب الضمير” وظهور مصالح جديدة للولايات المتحدة إلى تغيير الرأي العام لتبدأ دورة جديدة من الحماس الأميركي للتدخل.
الأمثلة العيانية لهذا التحليل تقترح حرب تحرير الكويت في العام 1991 كبداية لدورة الحماس الأميركي، وقد استمرت الدورة مع التدخل الأميركي في الصومال عام 1992. المغامرة الأميركية في مقديشو انتهت بحادثة سقوط مروحيتين أميركيتين ومقتل 19 جنديا في العام 1993، لتبدأ دورة رفض التدخل والتي كبحت التدخل الأميركي في البوسنة وفي رواندا عام 1994.
المذابح الجماعية في رواندا أطلقت دورة جديدة أسفرت عن التدخل العسكري في كوسوفو العام 1999، ومن ثم في أفغانستان والعراق. أنتج التدخل الأميركي في العراق ما يشبه “متلازمة رفض التدخل الأجنبي” لدى السياسيين والمواطنين الأميركيين، بل حتى لدى المجتمع الدولي. وبحسب هذا التحليل، فإن تلك “المتلازمة” وراء منع التدخل العسكري في سوريا.
يتعامل التحليل السابق مع الولايات المتحدة والجيش الأميركي باعتبارهما منظمة تدخل تهرع لإطفاء نار الانقسامات العرقية والدينية وإنقاذ المدنيين في كل مكان مدفوعة بالأخلاق وبقوة الرأي العام الأميركي. لكن التاريخ مليء بحالات أججت فيها الولايات المتحدة التوترات الطائفية والعرقية، آخرها العراق حيث اختارت، وقد كانت الحاكم الفعلي له، إنشاء سلطة طائفية.
يقع هذا التحليل أيضا في خطأ التعميم الشديد إلى درجة تجعل فيها كل أزمات العالم متماثلة على أجندة الولايات المتحدة، حيث يجري تقييمها انطلاقا من بعد واحد هو البعد الإنساني. وبذلك يتجاهل الطبيعة الداخلية لكل أزمة والسياق السياسي الإقليمي والدولي الذي تحدث به، وهو ما يؤثر بصورة كبيرة على إمكانية وفرص حدوث تدخل دولي.
وفي الحالة السورية تمكن الإشارة إلى طبيعة التحالفات الإقليمية والدولية للنظام السوري والتي تبدو استراتيجية من جهة، ووجودية من جهة أخرى، وبخصوص إيران وحزب الله فإن العلاقة مع النظام السوري وجودية، أما بالنسبة إلى روسيا فالعلاقة استراتيجية.
كما يتجاهل هذا التحليل موازين القوى في ما يخص الأزمة المطروحة. فالحرب السورية على وجه التحديد أظهرت أن دولا مثل روسيا وإيران، وفي هذه المرحلة من تطورها السياسي والعسكري، قد رسمت رهانات كبرى على نتائج الحرب وقد ألزمتها تلك الرهانات بالدفاع عن النظام ومنع أي تدخل دولي.
موازين القوى العالمية لا تزال تميل بصورة كاسحة لصالح الولايات المتحدة الأميركية التي يزيد إنفاقها العسكري عن إنفاق روسيا بأكثر من عشرة أضعاف. ولكن، في ما يخص سوريا، فإن لروسيا رهانات كبيرة يبدو أنها تفوق الرهانات الأميركية، ويعتبر ذلك أحد أهم الأسباب التي أعاقت، ولا تزال تعيق، التدخل العسكري الدولي.
وأخيرا، يضع هذا التحليل الرأي العام الأميركي في سياق يبدو وكأنه محوري جدا في تكوين السياسة الخارجية، أو في تعطيل سياسة معينة يرغب البيت الأبيض في تبنيها. في حين أن من يقوم بدور إعداد وقيادة السياسة الخارجية هو تحالف القوى الحاكم في الولايات المتحدة والذي يضم المشرعين والجيش والقطاعين الصناعي والمالي. وقد استخدم الرأي العام الأميركي كذريعة لتبرير قرار الرئيس باراك أوباما التراجع عن توجيه ضربة عسكرية للنظام السوري في العام 2013، في حين كانت تلك رغبة وإرادة البيت الأبيض. ويخضع الرأي العام الأميركي لحملات مستمرة من قبل شبكات الإعلام الأميركية الكبرى، والتي تؤثر عليه وتقوم بتوجيهه بما يتوافق مع المسار العام الذي يختار تحالف القوى المهيمن للسير به.
إن تحالف القوى الأخير هو من يحدد ضرورة التدخل العسكري الأميركي من عدمه، وذلك بعد دراسة طبيعة الأزمة محل النقاش والأطراف المحلية والإقليمية والدولية المنخرطة فيها. ورغم جاذبية الحديث عن دورات نشاط وخمول للتدخل الأميركي، يشير التاريخ إلى أن الولايات المتحدة كانت دوما في حالة تدخل وعدوان خارجي بالشكل والمستوى اللذين يناسبان مصالحها، لا مصالح ضحايا النزاعات والحروب.
سلام السعدي_العرب