كُتب الكثير حول الوطنية السورية، نقداً وتشكيكاً وإشادة. منهم من نفى وجود هذه الوطنية أصلاً؛ ومنهم من طالب، ويطالب بالمحافظة عليها، بل بلغ بهم الأمر إلى درجة اتهام كل من يدعو إلى صيغة ما من اللامركزية بالانفصال، وبالرغبة في اقتطاع جزء من الوطن. ومنهم من دعى إلى تنمية الروح الوطنية، وتأصيلها، والبناء عليها.
يبدو أن مفهوم الوطن بحد ذاته ما زال غير واضح المعالم لدى الكثير من السوريين. فمنهم من يعتبر سوريا جزءاً من الوطن العربي الذي لا بد وأن يتوحد في يوم ما؛ ومنهم من يرى أنها تضم أرضاً كردية لا بد وأن تعود إلى أصحابها وأصولها، طالما أن القوميين العرب يصرون على الوحدة العربية. أما أنصار التيارات الإسلامية بأسمائها المختلفة فهم في معظمهم ما زالوا في حنين إلى عهود الخلافة، خاصة الخلافة العثمانية التي حكمت سوريا ومناطق واسعة من منطقتنا على مدى أكثر من أربعة قرون.
أما النظام وأنصاره، فهم يربطون بين الوطن والنظام، ويعتبرون بشار رمزاً لهذه الوطنية التي كانت، وما زالت، وبالاً على سوريا والسوريين منذ نحو خمسة عقود. فهم يتشدقون بالوطنية الزائفة التي تسترت بشعارات كبرى اُستغلت للانقضاض على الوطن وأهله من قبل مجموعة عسكريين، سرعان ما اختلفوا في ما بينهم، وتناحروا، فكانت الاعتقالات والتصفيات، إلى أن بلغنا مرحلة عبادة الشخص الحاكم عبر أسطرة القائد، وإسباغ الصفات السماوية عليه.
وكانت الاستراتيجية الأساسية للنظام الأسدي تتمحور حول القاعدة الذهبية بالنسبة للراغبين في التحكم والسيطرة: فرّق تسد. فأصبح السوريون بفعلها غرباء عن بعضهم، وباتت الأجهزة الأمنية هي صلة الوصل بينهم وبين الدولة؛ هي التي تحدد قيادات حزب البعث، وقيادات النقابات، وأعضاء مجلس الشعب الشكلي أصلاً، ورئيس وأعضاء الحكومة. وهي التي تتحكّم بكل المفاصل على مستوى الدولة والمجتمع ومصائر الأفراد؛ وذلك بعد أن تمكّن نظام حافظ الأسد من تدجين معظم الأحزاب ضمن “الجبهة الوطنية التقدمية”. أما من أعترض ورفض، فكان مصيره الملاحقة والاعتقال، وحتى التخوين والشيطنة والتصفية.
لقد أثبتت تجربة قرن كامل يفصل بين يومنا هذا وولادة الدولة السورية الأولى عام 1920 أن الإرادات الدولية هي التي شكلت هذه الدولة، وما زالت هذه الإرادات قادرة على التحكّم بمجريات الأمور في المنطقة؛ بل هناك خشية حقيقية من أن تعمل تلك الإرادات على تقسيم الكيانات الموجودة راهناً، لتغدو أكثر انسجاماً مغ المتغيرات والحسابات الجديدة.
ولا نذيع سراً إذا قلنا إن القوى التي استفادت من واقع التقسيم قد أصبحت في يومنا الراهن من أكثر حراسه حماسة من جهة الحرص عليه. وليس من المستبعد أن تظهر قوى جديدة تجد مصلحتها في واقع تقسيم جديد، هذا ما لم تكن هذه القوى قد ظهرت بالفعل.
وبناء على ما تقدم نرى أن التركيز على الوطنية السورية التي تحترم الخصوصيات والحقوق، وتضمن التشارك الفعلي الواقعي في الإدارة والثروات يبقى هو المخرج الأضمن الذي من شأنه إيجاد حل للمأساة السورية؛ ويجمع كلمة السوريين على اختلاف انتماءاتهم المجتمعية من دينية ومذهبية وقومية وجهوية. فمثل هذه الوطنية تمكّن السوريين من الإستقواء بشعبهم في مواجهة التحديات الدولية، وذلك عوضاً عن الاستقواء بالدول “للانتصار” على بعضهم.
إن التشديد على أهمية وضرورة المشروع الوطني السوري الذي يستند إلى الواقع القائم، وليس المتخيل المنتظر، ليس معناه الفصل بين السوريين ومحيطهم العربي والكردي أو الإسلامي والمسيحي، أو الإقليمي والإنساني بصورة عامة؛ بل هو يدعو إلى أهمية التواصل، وتبادل العلاقات والمصالح، ولكن مع إعطاء الاعتبار لأولويات الوطن والمواطن السوريين أولاً، وعدم إرجاء البت في قضايا ومشكلات سورية، في انتظار تحقق المشاريع الكبرى التي طالبت بها الأيديولوجيات القومية والدينية على مدى نحو قرن كامل.
من مصلحة السوريين أن يستفيدوا من امكانيات محيطهم المفتوح، ومن مصلحة هذا المحيط أيضاً أن تكون سوريا عامل استقرار ووئام في المنطقة بفعل وفضل العلاقة التفاهيمة بين مكوناتها المجتمعية، وقدرتها على العيش المشترك، وتفاعلات ذلك مع العلاقة بين المكونات المجتمعية في الجوار الإقليمي، وذلك نظراً لواقع التداخل السكاني المجتمعي بين سوريا والدول المحيطة بها.
كما ان استقرار سوريا الدولة على أساس اجتماعي اقتصادي راسخ هو الذي يعزز الأمن والاستقرار في المنطقة بأسرها. أما الاستقرار الأمني القمعي الذي كان يتباهى به النظام سابقاً فقد ثبت بأنه لم يكن سوى استقرار خادع مزيف، ثار عليه السوريون بعد أن تراكمت السلبيات، وكان اللافت في الثورة السورية الشعبية أن كل المكونات شاركت فيها في البداية.
ولكن النظام تمكن بالتنسيق مع راعيه الإيراني من فرض العسكرة على الثورة، الأمر الذي أبعدها عن مسارها، وفتح المجال أمام أصحاب المشاريع الإقليمية والجهادية، وباتت سوريا مرتعاً للعبة دولية ما زالت تبعاتها الكارثية تتفاقم.
ولكن ما نعتقده في هذا السياق هو أن أعواماً من المعاناة التي تجسدت في واقع التهجير والقتل والتدمير، قد أقنعت السوريين بخطأ المراهنة على المشاريع العابرة للحدود، سواء القومية منها أم الدينية المذهبية. وقد جمعت المحنة بين السوريين الذين يعانون اليوم في سائر المناطق من صعوبات معيشة قاسية، كما أنهم جميعاً يدركون أن زمرة الفساد والاستبداد التي تقود البلاد راهناً بعقلية أصحاب العصابات، ليس في مقدورها وضع الحلول الجذرية التي تحتاجها المشكلات والقضايا التي يعاني منها المجتمع السوري؛ لذلك فهي تسلّم مقادير البلاد إلى القوى المتربصة، بل باتت البلاد مفتوحة أمام كل المخاطر بما فيها التقسيم الفعلي، وربما الرسمي، إذا ما استمرت الأمور على منوالها الحالي.
والسؤال الذي يفرض ذاته بقوة هنا هو: هل يستطيع السوريون بكل مكوناتهم وتوجهاتهم أن يعيشوا معاً مستلهمين القيم الوطنية التي ناضل من أجلها رواد الاستقلال الأول؟ فمثل هذا العيش المشترك سيكون قاعدة لضمان مستقبل أفضل لأجيالنا المقبلة من دون أستثناء أو تمييز.
ما نعتقده في هذا المجال هو أن هذه الإمكانية ما زالت قائمة، شرط أن تتحرر إرادة السوريين، وتتفاعل نخبهم الثقافية والسياسية والاقتصادية والمجتمعية بصورة عامة ضمن حوارات وطنية معمقة؛ حوارات تضع النقاط على الحروف بعيداً عن المجاملات العاطفية الخاوية، والجمل الإنشائية التي توحي بأنها تقدم شيئاً لكنها في واقع الأمر تُستخدم للتعمية والتضليل والتمييع.
لدينا مشكلات واقعية تستوجب المعالجة سواء بين المكونات المجتمعية، أم على صعيد الفساد الشمولي، أم ما يخص السياسات المتبعة في الداخل، ومع الجوار الإقليمي والمجتمع الدولي. ولن يتم تحقيق ذلك ما لم تساعد القوى الدولية التي تدّعي حرصها على مستقبل السوريين، وتقطع مع سياسات شراء الذمم، واستخدام السوريين كأدوات في مشاريعها وحساباتها التنافسية، سواء على مستوى الإقليم، أم على المستوى الأوسع.
إن الاستثمار الأنجع والأكثر فائدة في المشروع السوري هو الاستثمار البعيد المدى الذي يقوم على وحدة السوريين أرضاً وشعباً مع أخذ الخصوصيات المجتمعية بعين الاعتبار. فمثل هذه الوحدة لن تكون موجهة ضد أحد، بل على العكس من ذلك ستكون في مصلحة الجميع على قاعدة احترام الإرادات وتبادل المصالح. ولكن العامل الأهم يظل هو العامل الوطني السوري. فلن يكون هناك مشروع وطني سوري قابل للتنفيذ والحياة من دون وطنيين سوريين يعشقون شعبهم وبلادهم، ويسخّرون كل امكانياتهم في سبيل مستقبل أفضل للأجيال السورية القادمة. أناس على استعداد للتنقّل بين كل المناطق السورية، قرية قرية، بلدة بلدة، بل أسرة أسرة من أجل عقد المصالحات وترطيب الخواطر، فالجروح عميقة، والهواجس كثيرة ومشروعة. ونحن بأشد الحاجة إلى تعزيز الثقة، وتجديد الأمل، وطمأنة الناس عبر الضمانات الواقعية التي تؤكد أن القادم سيضمن مستقبلاً كريماً زاهراً للأبناء والأحفاد.