لم تسعف الكلمات أحد المقاتلين الذين خرجوا الأربعاء من حي الوعر الحمصي، فاغرورقت عيناه بالدموع، واكتفى بالقول “بإذن الله راجع”، ثم جالت عيناه في الحي الذي كان آخر أحياء مدينة حمص بيد المعارضة السورية المسلحة قبل توقيعها هدنة مع النظام برعاية أممية.
وأفضى اتفاق الهدنة إلى خروج المئات من المدنيين -بينهم أطفال ونساء- صوب شمال سوريا، إضافة إلى المقاتلين الرافضين للاتفاق.
ظل حي الوعر -الذي يضم آلاف المدنيين- محاصرا على مدى عامين، ولكن وطأة الحصار والقصف على الحي زادا في الشهور الأخيرة لإجبار المدافعين عنه على توقيع هدنة مع النظام شبيهة بتلك التي وقعها مقاتلو المعارضة في مايو/أيار من العام الماضي في أحياء حمص القديمة، والتي اشترطت خروجهم منها إلى ريفها الشمالي.
ولم تتعرض مدينة لما تعرضت له حمص من دمار استهدف أغلب أحيائها القديمة، ومن قتل وتهجير سكانها على يد قوات النظام؛ فالمحافظة انخرطت مبكرا في الثورة، وخرجت بمظاهرات هزّت أركان النظام، حتى غدت تُسمى “عاصمة الثورة”.
تعد حمص أكبر محافظات سوريا من حيث المساحة (أكثر من أربعين ألف كيلومتر مربع)، وتتوسط البلاد، مما أكسبها أهمية إستراتيجية، وتتبع المحافظة مدن عديدة كبرى كالرستن، وتلبيسة (شمال) والقصير وتلكلخ (غرب)، وإلى الشرق تدمر المدينة الواقعة في قلب البادية.
تهجير قسري
يعتقد معظم السوريين بأن ما جرى في حمص -وهي من أقدم مدن الشرق- ليس هدنة، بل تهجير قسري بعد حصار طويل، وخطوة أخرى في طريق تغيير ديمغرافي ممنهج.
وهذا ما يؤكده المعارض عماد غليون (ابن مدينة حمص)، حيث قال في حديث مع الجزيرة نت “حذرنا من عمل منهجي يتم في محافظة حمص منذ بداية الثورة لتفريغها من سكانها”.
وأضاف أن النظام قام بتفريغ أحياء داخل المدينة ومناطق واسعة في ريفها الغربي، ومن ثم سلّم تدمر والمناطق المحيطة شرق حمص لتنظيم الدولة الإسلامية، فهرب سكانها ولم يبق سوى الريف الشمالي الذي تعمد قصفه باستمرار لتفريغه من أهله.
من جانبه، يرى الكاتب ميسرة بكور أن ما جرى في حمص هو جزء من مشروع بشار الأسد في التحول إلى خيار إنشاء دويلته، حيث يرجح أن تكون حمص عاصمتها، وتضم مناطق غربي العاصي، ولهذا فإن تهجير السُّنة من معظم أحياء المدينة هو أحد محددات قيام هذه الدويلة الطائفية.
وأشار بكور إلى أن ما حدث في حمص “عملية تهجير قسري، وهي جريمة حسب القانون الدولي، مبديا استغرابه من أن الأمر يتم تحت إشراف الأمم المتحدة، مما يدفع لطرح مزيد من التساؤلات بشأن دور مبعوثها السيد ستيفان دي ميستورا، وفق تعبيره.
مرقد ابن الوليد
حمص التي اتخذها الصحابي خالد بن الوليد دارا ومستقرا بعد أن فتحها سنة 636 للميلاد، وبنى بالقرب من قبره أكبر مساجدها، دفعت الثمن الأغلى خلال سنوات الثورة، وبات أغلب أهلها اليوم نازحين داخل سوريا، أو مهجرين في ديار المهجر، يذرفون الدمع على مدينة سيف الله المسلول، ويستحضرون بيت شعر شهير قاله نزار قباني ذات يوم ليس ببعيد: “يا ابن الوليد ألا سيف تؤجره فكل أسيافنا قد أصبحت خشبا”.
الجزيرة