تُسَمَّى الورقة التي تَدعو الشبانَ من أبناء الوطن السوري، للالتحاق بالخدمة العسكرية، مذكّرة سَوْق، وهي تسميةٌ تلخص نظرة القادة التاريخيين لنا، نحن السوريين، على أننا بهايم، لا نُدعى لخدمة وطننا، بل نُسَاق إليها سَوْقاً!…
يؤكّد السادةُ الضباط صحة نظرية (السَّوْق) هذه، حينما يخاطبون العنصرَ الشجاع بعبارة: آه يا وحش، ويخاطبون العنصر الذي ينزعجون منه بعبارة: يا كرّ.. والكرّ هو الحمار، ولكن مع جرعةٍ زائدة من التحقير. وقد روى لنا لقمان ديركي، ذات جلسة، نكتةً جرتْ أحداثُها على أيام سرايا الدفاع التي أسسها زميلنا عضو اتحاد الكتاب العرب، الدكتور الركن رفعت الأسد، تقول إن عنصراً من سرايا الدفاع أراد أن يحتقر مواطناً سورياً، فصرخ به: انزل عن الرصيف يا حمار. فردّ عليه المواطن: لا تقل رصيف.
ويسمّي العسكريون التدريبات العسكرية النظام المنضم. ووالله أنني، منذ أنا (ساقوني) إلى الخدمة العسكرية في سنة 1977، وحتى الآن، أفكر في معنى كلمة (منضم)، فلا أهتدي إلى معنىً إيجابي لها، ولا سيما أن أهل بلدتي معرتمصرين يعتبرونها نابيةً.
أُصِبْتُ، وأنا في سن الشباب، بمرضٍ في مفصل الورك الأيمن، اسمه داء بيردز، كان يمنعني من ممارسة تدريبات النظام المنضم التي تنطوي على إجهادٍ عضليٍّ كبير، فيزيد ذلك في تخرب المفصل، وكان بعضُ المدربين يلاحظون أنني أمشي في أثناء التدريب بطريقة (خصلة وعنقود)، فيسمحون لي بالخروج من الصف، لأجلس على حجر، أو صخرةٍ في جانب ساحة التدريب، وأُخْرِج من تحت بدلتي العسكرية كتاباً، وأشرع بقراءته، ريثما يعود زملائي من رحلة النظام المنضم التي تنتهي، غالباً، بعقوبةٍ تتلخص بأن يخلعوا ثيابهم، ويتدحرجوا على البحص والشوك والتراب.
وذات مرة، كنت أقرأ في كتابٍ استعرته من صديقي الشاعر حسّان عزت هو “زمن الشعر” من تأليف أدونيس، وإذا بالنقيب المشرف على دورتنا يَخرج من ورائي، ويأمرني بالوقوف، وإلقاء ما بيدي. فلما ألقيت الكتاب، تناولَهُ كما لو أنه قنبلة نُزع منها الصاعق، وقال لي: مين هادا أدونيس؟ قلت: يا سيدي، أدونيس شاعر سوري. فقال: (ولاه كرّ، بودك تضحك علي؟ واضح من اسمه أنه واحد أجنبي. على كل حال، سآخذه معي وأتأكد منه، والله إذا تبين أنه ممنوع لحتى أنقعك زوم على كيفك).
في اليوم التالي، سألتُ زميلاً لي قادماً من بلدة قريبة من قرية النقيب عن معنى عبارة (أنقعك زوم)… فشرح لي أن النقيب يتوعّدني بأنه سيضربني ضرباً مبرحاً فيما لو كان أدونيس ذا شبهةٍ أمنية. وفجأة دخل علينا النقيب المذكور، وقذف كتاب “زمن الشعر” نحوي، وهو يقول بلغة العارف المنتصر: هادا الكرّ “علي أحمد سعيد إسبر” ما لقى يسمّي نفسه غير أدونيس؟ تضرب منك إلو.
وكان الواحد منا، قبل أن نُساق إلى خدمة العلم، يفرح حينما يخاطبه الناس بلقبه العلمي، دكتور، أو أستاذ… وأما في جيشنا العربي السوري الباسل، فإن هاتين الكلمتين تُستخدمان للمسخرة، وذات مرة حلف لنا أحد الضباط الأشاوس بشرفه العسكري، أنه لو خُيِّرَ بين لقب أستاذ ولقب آنسة لاختار الثاني. .. قالها، وانفلت بضحك صاخب مرح، تتخلله وقفات استخدم فيها حرفي الكاف المكرّر (ككك).
تذكرتُ هذه الوقائع كلها، وأنا أصغي إلى الصديق الدكتور محمد جمال طحان الذي اعتقله فرع الأمن الجوي في حلب في مطلع عام 2011، و(سيق) إلى دمشق، وغاب شهوراً طويلة، تردّدت خلالها إشاعاتٌ تفيد بأنهم أماتوه تحت التعذيب. قال لي إن إحدى الدوريات الأمنية كانت تداهم منزل أحد دكاترة الجامعة في حلب، وكان العنصر يفتش المنزل غرفةً بعد غرفة، فلما وصل إلى غرفة المكتبة، حار في أمره ماذا يفعل… ففتح جهاز اللاسلكي (القَبْضة) وقال:
– احترامي سيدي، هادا الدكتور الحيوان لقينا عنده مكتبة.
مكتبة؟ هههه ككك.
العربي الجديد – خطيب بدلة