ولدت في حلب، ونشأت فيها، وأتممت بين رحاب مدارسها وجامعتها دراستي، وتعزّ علي كثيرا، مع أنني لست من أبنائها..
ومع عظيم ما جرى ويجري فيها اليوم، ومع التسارع الرهيب للأحداث شعرت أنني أمام مسلسل من الثمانينات: حيث يأخذ الكاتب كامل راحته وهو ينسج خيوط قصّته، وما إن يشعر بأن النهاية اقتربت يستدرك نفسه، ويكثف الأحداث، ويسلقها في حلقة أخيرة.. ولكم أخشى أن تكون حلب وصلت للحلقة الأخيرة!
وفي دقائق معدودة تعود بي الذاكرة عميقا قبل أربعة عشر عاما إلى مقعدي في ” ثانوية يونس الراشد” وأنا طالبة “حادي عشر أدبي” كنا كل الوقت ننهل الدروس في تقديس الأسد وتمجيد حزب البعث، والذم من عدونا (الأكبر) إسرائيل.. ولطالما في كل اجتماع صباحي توعدنا إسرائيل وحماتها أقصد هنا الولايات المتحدة بالثأر لقضايانا العادلة.. وسببنا وشتمنا (الموت لإسرائيل.. الموت لأمريكا..)
– ياه كم كانت عقولنا صغيرة؟!
– كم كنا غافلين؟!
– أتعلمون متى أدركت هذا الأمر؟ أدركته من حينها ولكن..
فبعد أحداث الحادي عشر من أيلول.. والهجوم البربري على أفغانستان؛ بحجة مكافحة الإرهاب احتدّ قلمي -على صغر سني وقلة إدراكي للعالم وعنكبوتيته من حولي- مستغلة موهبتي بالكتابة والتحليل السياسي.
فكم من مرة كنت رائدة على مستوى القطر! وكم تم تكريمي في مدرستي ورابطتي لجرأتي على الحق وصواب أفكاري.
المهم (ما لكم بالطويلة) كتبت ما كتبت! ووجهت لأمريكا (عدونا المزعوم) أقسى العبارات والاتهامات الهمجية على ورقة، مزقتها من أعزّ دفتر على قلبي، وبعد أن انتهيت.. مضيت بالورقة، وكان لنا في بهو المدرسة لوحة إعلانية معلوماتية، لصقت الورقة عليها، ومضيت إلى صفي، وأنا أحلم بحجم الإعجاب الذي سأناله على هكذا آراء! وما أن مرّ ربع ساعة من درس الفلسفة حتى دُفع باب الصف، بل رُكل برجلٍ غاضبة متسرعة.
وقف الجميع متسمرّون، وإذا بالموجهة تصطحب المديرة وأمينة الوحدة ونادين باسمي.. نهضت، وشعرت بالدنيا تدور من حولي، وأنا أرتجف.. أخرجنّني من الصف، وسط ذهول معلمتي وأقراني، أصوات هسهستهم تثقب أذني.. ونزلنا معاً على الدرج، ثم توجهنا باتجاه غرفة التربية العسكرية كانت الآنسة (أ، ص) وكلّ شرور الدنيا في عينيها.. وبدأ سيلٌ من الأسئلة والاتهامات والتخوينات ينهال على مسامعي (من كتب هذا لك، لمن تكتبين، لمن تتبعين، كم قبضت أجر إلصاقها هنا، من معك داخل المدرسة، كم عددكن، هل بينكم من خارج البلد..) لا أعرف من يطرح الأسئلة أو من أي جهة.. ما أعرفه أنني صمتّ طويلا ألحّوا كثيرا كي يعرفوا (من الجهة التي تقف وراء دفعي لهذا العمل) ولولا حوبتي وحجم محبتي لدى الجميع لما مرّت الحادثة بهذا العقاب البسيط أبدا.
وأسأل نفسي: ما الذي حصل؟! أنا فقط عبّرت عن رأيي، حقي الذي أعطيتموني إياه طوال سني دراستي، وما بكم إنها أمريكا العدو وأبو العدو؟! لماذا استنفرتم؟ّ وألف سؤال آخر دار في عقلي يومها لكنني أدركت القصة أخيرا..
أتعلمون ما نقصني يومها؟
نقصني جرأة أطفال درعا التي تدفع سوريا الآن ثمنها من أظافر قدميها حتى قمة رأسها دما حرا أبيا.. حفظك الله يا حلب
المركز الصحفي السوري – شاديا الراعي