في كلمته التي ألقاها في مجلس العموم البريطاني، الثلاثاء الماضي، دعا وزير الخارجية بوريس جونسون إلى تنظيم تظاهرات احتجاجية لمناهضي الحروب وخاصة ائتلاف أوقفوا الحروب، بعد مطالبات بتجمعات مليونية أمام السفارات الروسية في كافة عواصم العالم.
أثار ذلك جدلا ونقدا داخل بريطانيا وخارجها، ليس لرفض الإدانات الواسعة للموقف الروسي الداعم للنظام الحاكم في سوريا عسكريا وأيضا دبلوماسيا بعد مهزلة الرفض المتكرر لأي قرار يمكن أن يؤدي إلى التمهيد لإعادة فرص الاستقرار إلى سوريا، وإنما لأسباب تتعلق بمكانة جونسون الرسمية ومكان تلك الدعوة التي يرى فيها الكثيرون تجاوزا للأعراف المتبعة.
لكن ماذا عن الجانب الإنساني في شخصية أي مسؤول سياسيا أو دبلوماسيا؟ هل يمكـن الفصل بينهما؟ وماذا تعني الإشارة إلى التظاهر أمام السفارة الروسية في لندن؟
كل تلك الأسئلة وغيـرها تعيدنا إلى اليأس من مواجهة جرائم الحرب، إذا كان مرتكبوها أو من يساندهم يمتلك السلاح، ونعني به قمة امتلاك الرعب والدمار الشامل المتمثل بالسلاح النووي، يضاف إليه موقع مؤثر وحاسم في السياسة العالمية يعمل وفق آلية شرطي مرور دولي يسمح بتمرير القرارات أو إيقافها قطعا أو مؤقتا بعد فرض شروط التعديل والصياغة لتكون ملائمة لاشتراطات ومنهج ومكانة دولة تحظى بمقعد دائم في مجلس الأمن، كالاتحاد الروسي.
مع حالة الإحباط التي هزّت ضمير الشعوب بعد الفيتو الروسي على القرار الفرنسي، حدثت ردات فعل نفسية ألقت بظلالها على العلاقات الدولية مع روسيا، كما في تأجيل زيارة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين إلى فرنسا بعد تصريح الرئيس الفرنسي فرنسوا هولاند باحتمال عدم استقباله للضيف الروسي. موقف وزير الخارجية البريطاني يأتي ضمن هذا السياق غير المسبوق كتعبير عن الاشمئزاز للمشاركة الروسية الفاعلة بما يحدث من انتهاكات في حلب.
أسباب رفض الاستقبال الصادرة عن قصر الإيليزيه هي رفض الرئيس الروسي إدراج الملف السوري ضمن الحوار بين الرئيسين، والاكتفاء بالطروحات العامة والالتزام بفقرات وغرض زيارة العاصمة الفرنسية المتعلق بافتتاح كاتدرائية أرثوذكسية روسية تم الانتهاء من تشييدها مؤخرا، وكذلك حضور معرض فني روسي أيضا. واضح جدا أن روسيا علقت تماما مأساة الشعب السوري بعد أن مالت وقائع الحسم العسكري لصالح النظام وإمكانية فرض شروطه في أي مفاوضات قادمة مع المعارضة ووفق رؤيته وتقييمه للفصائل المسلحة.
ما أثاره جونسون بدعوته إلى التظاهر، يحمل في طياته تناقضا بنظر منتقديه، مرده أنه أحد أقطاب “نكسة البريكسيت”، أي التصويت لخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، والنكسة توصيف لارتدادات ذلك الخروج على عموم أوروبا، بعد ضجة المؤيدين ونشوتهم إثـر إعلان نتائج الاستفتاء ومشاعرهم الفائضة تجاه فكرة إحياء الدولة الوطنية بحدودها وتراثها القديم، وهي مقـاربات تطرف لم تستمر طويلا رغم محاولة النيل من ضبابية الإدارات السابقة بشأن التزامها بالقيم الديمقراطية.
الآن وبعد الاستفتاء البريطاني، يبدو أن بريطانيا قدمت خدمة إلى أوروبا رغم كل المخاوف من تردي الأمن الاقتصادي والسياسي والأهم مشاعر قلق الإرهاب الذي ضرب فرنسا وألمانيا وبلجيكا عمليا، والبعض من نتائج الانتخابات النهائية أو التمهيدية التي تؤكد تنامي اليمين المتطرف، لكن الاستفتاء البريطاني وفر القناعة لكل أوروبا بضرورة تنشيط الاتحاد وتبادل المنفعة وضبط حدود الاتحاد الأوروبي كدولة واحدة، لمعالجة مشاكل الهجرة وتداعيات العنف بتوحيد جهود الأجهزة الأمنية والاستخباراتية من أجل أوروبا، دون التوقف أمام الإملاءات الخاصة للسلطات المتعاقبة وأحزابها ونتائج انتخاباتها داخل دول الاتحاد؛ ولهذا أي طروحات لاستفتاء مماثل للاستفتاء البريطاني في أوروبا ستكون إعلانا للفوضى القادمة، وهناك من بدأ يلجأ لتعميم فكرة الاستفتاء حتى على قرارات عامة كما في الاستفتاء الهنغاري على حصص اللاجئين.
المواقف المؤيدة لخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي تتغير، وهي تغيرت فعلا في أجزاء كبيرة منها، وذلك له علاقة تتناسب مع تحقيق أوروبا لنجاحاتها في ردم الهوة السحيقة في التعاطي مع أزمة الثقة نحو مستقبل السلم العالمي واعتبار أوروبا ضمانة لقوة دولة كبرى موحدة تتجاوز مفاهيم الدكتاتورية لسلطة قوة انتخابية، إلى إجماع مستقبلي يرى في الاقتصاد ركيزة أساسية لبناء قاعدة من التعاون لتوفير قناعة أوروبية وعالمية أيضا بفوائد السلم والنمو والتكامل الاقتصادي، ويكون ذلك دافعا لبريطانيا في المستقبل للعودة إلى الاتحاد الأوروبي دون تردد أو خصوصية كما كانت قبل الاستفتاء.
أوروبا تتوحد في مجلس الأمن ويشكل ذلك واقعا عمليا لبريطانيا في استشعار اندماج مصالحها ورؤاها في الاقتصاد والسياسة والأمن مع أوروبا بما يمهد للاطمئنان من أجل توازن ممكن وقادم، بعد خيبة الأمل من استمرار تردي المواقف الدولية تجاه قضايا تتعلق بمصير الملايين من البشر، كما في النزاع السوري والأزمات الأخرى في منطقة الشرق الأوسط أو أماكن أخرى من العالم.
التظاهر واللبس الحاصل، استجابة إنسانية لا يمكن إغفالها لوزير خارجية بريطانيا الذي يرى في الموقف الروسي المتشدد استهانة بالحياة وسط صمت كانت تكسّره جموع المتظاهرين كضغط شعبي عالمي للرأي العام، وما ينتج عنه من تأثير على القرارات الدولية أو حث لأجهزة الإعلام المتنوعة للاهتمام بمتابعة تلك التظاهرات التي تعبّر عن إرادة الشعوب في تقرير دورها أو مساهمتها في الهموم الإنسانية المشتركة، رغم عدم الأخذ بها في أحيان كثيرة، لكنها مع ذلك أدت في تأكيد، على الأقل، براءتها من حماقة السلطات الداعمة لشن الحروب للهيمنة أو لفرض واقع اختيارات الدول الكبرى.
انحسار التظاهرات سببه التواصل عبر المواقع الإلكترونية الذي بات بديلا لصوت الشارع، لكن بعيدا عن الاستثناءات ساهم في تحجيم التظاهرات ودورها المباشر في إعلان رفضها كما في مثال حلب ومجازرها اليومية.
ثرثرة الجرائم التي يرتكبها النظام السوري بمساندة روسيا وإيران، وبتجاوز صريح لكل الأعراف والمبادئ والقوانين الإنسانية، جعلت من حلب بمثابة قنبلة لليأس الدولي أفرغت محتواها على هذا العالم، لكنها كانت سببا لأن ينطق عالمنا بعد خرس طويل.. كيفما كانت الحروف أو اللغة أو الصوت، لكن للحقيقة نبتة تختار زمانها ومكانها حتى ولو في مقبرة.